السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
هيكل صحفى حتى أطراف أصابعه ومثالى فى التعامل معه!

هيكل صحفى حتى أطراف أصابعه ومثالى فى التعامل معه!

كان كتاب «عبدالناصر والعالم» للأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» الذى صدر عام 1972 عن دار النهار هو أول كتاب يكتبه «هيكل» ككتاب مستقل، وليس مجموعة مقالات له تم طبعها فى كتاب ومنها مثلا أزمة المثقفين وخبايا السويس.



وهو أيضا أول كتاب يكتبه بالإنجليزية مباشرة ثم ترجمته إلى اللغة العربية بعد ذلك.

لقد اختار الأستاذ «هيكل» أن ينشر فى الأهرام ملخصات لأربعة فصول فقط من فصول كتابه وعددها 12 فصلا، وقام بالترجمة فى الأهرام الأستاذ «محمد حفنى».

واللافت للنظر أن المقدمة أو التقدمة- بلغة الأستاذ هيكل التى كتبها فى الأهرام عن كتابه- تختلف تماما عن المقدمة التى صدرت فى الكتاب وتقع فى تسع صفحات!!

ولم ينشر هيكل فى الكتاب المقدمة التى نشرتها الصنداى تلجراف بقلم «جوردون بروك شبرد» المساعد الخاص للورد «هارتويل» رئيس مجلس إدارة مجموعة صحف التلجراف التى نشرت فصول الكتاب الذى كتب معلقًا على النصوص والمكاتبات والرسائل التى جرت بين جمال عبدالناصر وزعماء العالم فكتب يقول: «هذه الرسائل بعيدة كل البعد عن الصياغة.. المراسمية- الجوفاء، بل إن بعضها تكاد فى لذغتها وقوتها- تكون لها أسنان حادة، وواحدة أو اثنتان منها فى غاية القطع والحسم.

ويعد نتيجة هذا المزيج من المادة الفريدة والأصيلة- تجربة تاريخية لم نشهد لها مثيلا منذ المذكرات العظيمة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتى كتبها أقطاب الجيل السابق، فهذه هى الحياة حول مائدة القمة فى الخمسينيات والستينيات، والذى يعرفها ويرويها لنا ليس شخصا يتصنت ويختلس النظر من ثقب الباب، ولكنه واحد من الذين كانوا هناك عند هذه المائدة أنفسهم.

والواقع أن الكثير جداً من قصة «هيكل- ناصر» هذه جديد إلى حد أننا نجد صعوبة بالغة فى اختيار هذه المقتطفات دون غيرها منها، ولكن ربما كانت هناك سمتان تبرزان على الفور فى هذه المدة أولاهما، إنها تشمل أول سجل أصيل وموثوق به على الإطلاق عن أزمة السويس لسنة 1956، كما يرى من الجانب المصرى، الأمر الذى قد يكون اهتمام القارئ الإنجليزى به مضاعفاً، فقد سبق أن قدم لنا رجال السياسة وقادة الجيش وكبار الدبلوماسيين والإنجليز والفرنسيين والأمريكيين والإسرائيليين روايتهم لهذه الفترة من وجهة نظرهم. أما هذه فهى ليست مجرد رواية مصرية أى رواية مصرية!! ولكنها رواية شديدة القرب من رؤية عبدالناصر.

ولا شك أنها تحتوى على عدة مفاجآت، وعدد لابأس به من الصدمات، لكنها تحتوى أيضا مهما اختلفت وجهات نظر القارئ معها على الكثير من الغذاء العقلى والدوافع إلى التأمل والتفكير العميق.

غير أن أسلوب رواية التاريخ عن طريق رسم ملامح الزعماء الشخصية هذا لا يشتمل فقط على الخبايا التى تكشف لأول مرة، ولكنه ذو قيمة تاريخية أصيلة لأنه يظهر كيف تتشكل الأحداث العالمية على أساس العلاقات الشخصية بين القادة العالميين.

 

 

 

وهكذا تأثر تاريخ مصر نفسها مثلا بالتقارب والإعجاب الذى تبادله «ناصر» و«شواين لاى» (الزعيم الصينى) فور لقائهما، بل وربما أكثر من ذلك بالعداوة التى تولدت بين «ناصر وأنتونى إيدن» (الزعيم البريطانى) وبات كل منهما يكنها للآخر منذ اللقاء الأول والأخير الذى تم بينهما.

ويمضى «جوردون شبرد» فى مقدمته عن هيكل وكتابه فيقول:

«إن الصورة التى يرسمها «هيكل» لزعيمه الراحل هى صورة الرجل المحافظ البسيط فى حياته الخاصة، لكنه الثورى والمتعدد الجوانب فى حياته السياسية، وبالرغم من أنه كان قليل الثقة تماما فى مدرسة الدبلوماسيين القدامى، فقد استلهم كثيراً من فنونهم واستطاع أكثر من مرة أن يهزمهم فى لعبتهم المفضلة!

وقد كان رجلا مفرطاً فى اعتزازه وكبريائه واعتداده ببلده إلى حد الشراسة، الأمر الذى كان يدفعه أحياناً إلى المبالغة فى رد الفعل ضد أى مساس بمصر مهما وهن شأنه سواء كان حقيقيا أو مستشفاً من بعيد.

لكنه قبل كل شيء وفوق كل شيء كان زعيماً بالفطرة، فقد كان رجلا حنكته وحدة القوة دون أن يفزع منها. ومن هنا كان يستطيع أن يستمر فى العمل طوال ساعات الليل والنهار أيامًا متصلة، ثم إذا به يخلق ما نسميه نحن بذلك «البعد الزائد» من القدرة على التفكير البعيد.

وكما فعل «بوزويل» أشهر كتاب اليوميات فى العالم على الإطلاق، وصديق الدكتور «صمويل جونسون» الذى أرخ له وكتب سيرته فى آن واحد من أمهات الكتاب فى الأدب الإنجليزى كله، فقد آثر «محمد حسنين هيكل» أن يبقى شخصيته هو خارج القصة، ومن ثم فعلى أنا أن قدمها نيابة عنه.

فهو صحفى حتى أطراف أصابعه بدأ حياته الصحفية وهو بعد فى التاسعة عشرة من عمره فى جريدة «الإيجيبشيان جازيت» كمندوب أو ما نسميهم بشبل من أشبال الصحافة لتغطية معركة العلمين سنة 1942 وأصبح اليوم رئيسًا لتحرير الأهرام أعظم وأقوى الصحف نفوذًا فى العالم العربى.

وعندما أخذت الطائرة فى بداية هذا العام بصحبة زميلين لى لإقناعه بأن ينشر كتابه عن «ناصر» فى «الصنداى تلجراف»، الأمر الذى كان كل الشواهد والظروف ضده على طول الخط، وجدت شيئا أكثر من مجرد أبرز رئيس تحرير فى العالم، كما أطلقت عليه جريدة النيويورك تيمس!

فهو من ذلك الطراز النادر: وطنى مصرى غيور ولكنه لا يصل فى غلوه إلى حد العدوانية وكراهية كل ما هو غير مصرى.

وقد أحسست على الفور بأن له تأثيرا حقيقياً فى سبيل التقدم والديمقراطية أينما وكلما كانت هذه الكلمات قابلة للتطبيق على مسرح السياسة المصرية المتوتر، ومن الواضح أنه يعد بذهنه الحاد وسعة إطلاعه وشغفه بالروح العصرية إلى حد الولع رجل الآفاق الجديدة فى القاهرة.

ولا شك أن طموحه من أجل بلده أكثر بكثير من طموحه من أجل نفسه، ويفضل أن يكون بعيدًا بقدر المستطاع عن السلطة من أن يكون تحت الأضواء مباشرة.

كما أنه يحس بمتعة حقيقية إزاء التحديات، وقد أحسست بذلك من رد فعله إزاء عرض له إذ قلت:

- إذا كنت تستطيع أن تقنع قراء «التلجراف»- وهم فى أغلبهم من غلاة المحافظين فى بريطانيا- أن ناصر كان على حق فى قضيته، ففى استطاعتك إقناع أى إنسان بقضية ناصر!

وبالرغم من أن رؤساء التحرير ليسوا بالضرورة أسهل من يتعامل معهم الناشرون- تماما كما أن قادة الطائرات ليسوا بالضرورة هم أفضل الركاب.

فقد أثبت هيكل أنه مثالى فى العمل معه، فقد كنا نثير فى طريقه عشرات الأسئلة كلما قرأنا جزءا من مسودة الكتاب وكان يجيب عليها دائما إجابة كاملة وعلى الفور، كما كان يضيف إلى ردوده الوثائق والأسانيد التى تدعمها كلما كان ذلك مطلوباً.

 

 

 

وأخيرًا يقول جوردون بروك شبرد فى تقديمه لكتاب هيكل:

«وفوق كل شيء، فلا شك أنه يتمتع بملكة الإحساس الدقيق بمغزى أحداث التاريخ وتدفقه، وقد ظهر هذا جليا عندما أصر على أن مأساة السويس كلها مردها إلى الخطأ المدمر «لجون فوستر دالاس» فى حساباته أنه من هذه النقطة من حطام سفينة السياسة الأمريكية على ضفاف النيل تبدأ قصته، قصة ناصر!». وللحكاية بقية!