رشاد كامل
العقاد والعميد والشناوى والحكيم بلا رتوش!
كلاهما طواهما النسيان الصحفى الكبير «صلاح عبدالجيد» نجم صحافة الأربعينيات من القرن الماضى فى مجلات روزاليوسف وآخر ساعة وغيرهما من المجلات، والذى وصف الأستاذ «محمد التابعى» بأنه «ذكى مسرف فى ذكائه» وكذلك طوى النسيان والتجاهل كتابه المهم والممتع «شخصيات بلا رتوش» والذى تناول فيه بإيجاز عبقرى رائع ملامح هذه الشخصيات المتنوعة فى عالم السياسة والصحافة ورسم كل شخصية الرسام «فوزى»!
فماذا كتب عن كل منهم؟! هذه بعض النماذج التى توقفت أمامها.
عن «عباس العقاد» كتب صلاح عبدالجيد:
«يجمع فى إنتاجه الأدبى بين السالب والموجب، تقرأ كتبه فى الآداب والسير فتغبط مصر على كاتبها الفحل، ثم تطالع له مقالاً سياسيًا فلا تستهويك فحولته بقدر ما استهوتك فى البداية، فإذا ما طالعت له كتابًا ومقالاً سياسيًا خرجت بشعور محايد ليس له ولا عليه!
كان أول كاتب عصامى عرفته مصر، فقد تولى عن المدرسة والمدرسين تنمية مداركه وصقل ملكاته الذهنية حتى أصبح وحده مدرسة وجامعة.
«جوكر» يكتب أى شىء ولا يكاد يجهل شيئًا ذلك لأنه يطالع فيفهم ويهضم ثم يجتر مما هضمه سطور كتبه ومقالاته، لا أعرف بين كتابنا من يملك زمام المنطق كعباس محمود العقاد، ولكن منطقه غير شعبى قد يقنع الخاصة، ولكنه لا يصل ولا يمكن أن يصل إلى أفهام العامة.
وثمة ميزة أخرى لمنطقه وهو أنه يستهويك ويقنعك وأنت تطالع سطوره لأول مرة فإذا طالعته مرة أخرى أو فكرت فيه أحسست فى أعماق نفسك بالثورة على الكاتب الذى يحاول أن يسخر من فهمك وعقلك!
عنيد ومكابر وإصراره على وجهة نظره فى السياسة وإصراره على نظم الشعر أبرز معالم عناده! متى يتحرر من هذا العناد»؟!
••
أما عميد الأدب العربى فقد قدمه بوصفه «الدكتور طه حسين بك» قائلاً:
«حرمه القدر من نعمة وغمره بنِعَم، ولو أتيح له أن يرى أكثر مما استشف بوجدانه لما قدم لنا أكثر مما قدم، درس اللغة فما استهواه منها بريقها وألفاظها الرنانة الطنانة التى لا تستهوى إلا أهل البادية، ثم كان له أسلوبه السهل الممتنع أيضا الذى يميل فيه إلى التجديد وإن كانت نشأته الأزهرية قد تركت فى أغوار نفسه ميلا إلى الاستشهاد بالشعر العربى القديم وهو يختلف عن غيره لأنه يجيد اختيار الشعر بما يتفق مع المناسبات.
أحد قلائل يمكن أن يوفر لهم الأدب الحياة الناعمة ولا أرى له عذرا فى الاشتغال بالسياسة، وكثيرون مثلى لم يفهموا حتى الآن لماذا «هادن» حزبا ثم هاجمه ثم هادنه ولم يهاجمه بعد!
وكثيرون مثلى قد عجزوا عن التوفيق بين ما كتبه فى السياسة منذ أعوام وما يكتبه اليوم! وهم فيما أرى معذورون، لو طالع الأديب الكبير ما كتبه للسياسة وما كتبه للأدب لضن على نفسه بأن يشوه نفسه ذلك الجمال القدسى.
يقول خصومه إن كتابه «الشعر الجاهلى» يشبه إلى حد كبير كتاب «ما قبل الإسلام» لمرجليوس، ثم يقولون إن أهم أوجه الشبه هى التشكيك فى وجود «امرئ القيس» الذى ورد ذكره فى تاريخ الدولة الرومانية القديمة».
ويصل بنا «صلاح عبدالجيد» إلى شخصية «توفيق الحكيم» فيكتب عنه:
«كتب أبدع ما كتب عندما انصرف عن الأدب إلى الوظيفة، والأدب والمادة ضدان لا يتفقان إلا عند «توفيق الحكيم» ولو لم يضمنوا للأديب التائه أكثر مما كان يحصل عليه من الوظيفة لما اعتزلها وهو الأديب البارع!
حبه للمادة جنى عليه وجنى على الأدب نفسه! وأمثال توفيق الحكيم يجب أن يعيشوا على هواهم ولا يكتبوا إلا عندما تدفعهم إلى الكتابة الرغبة الملحة فإذا كتبوا كان لأفكارهم قدرها لأنها تجرى من المنبع الصافى وتنحدر من خزان المواهب.. ولكن الحال غير الحال.. وتوفيق الحكيم يكتب لأن رصيده فى البنك يستحثه على الكتابة، فإذا لم يجد ما يكتبه استعان بفصول نشرها فى كتبه ودفع بها لأصحاب الدار بعد أن يوقعها بإمضائه!
يقول خصومه أو حساده إنه يعيش فى برج عاجى، وأنه لكذلك، ومن كان يشك فى هذه فليطالع المقالات القليلة التى كتبها «توفيق الحكيم» فى السياسة كتب مرة: «ما الذى يمنع أمريكا من أن تعطى دول الشرق مائتى مليون جنيه لرفع مستوى عمالها وفقرائها؟! ونسى توفيق أن يسأل نفسه ككاتب: وما الذى يمنعنى ككاتب من أن أبحث عن مبرر لهذه المنحة بدلا من إرسال الأمانة إليها التى لا تساوى شيئا ولا تعنى شيئاً!
حريص وما أشبهه بالميزان الذى تجده فى الصيدليات تدفع إليه بالقرش فيخرج لنا ورقة تحمل الوزن، فإذا دفعنا إلى الميزان بأقل من المبلغ المحدد ردت لنا الآلة الدقيقة ما دفعناه بلا ورقة، وهكذا حال «الحكيم» يرد المبلغ بلا مقال!
••
أما الأستاذ والشاعر والصحفى الكبير «كامل الشناوى» فكتب عنه:
تمنى أن يكون شيئًا ومضت الأعوام وإذا بهذا الذى تمناه يتمنى أن يكونه! يخيل إليك لفرط نشاطه أنه لا ينام فإذا نام كان فراشه أكداسا من الكتب العربية والمترجمة ويخيل إلى أنه لم يفلت من بين يديه كتاب!
أزهرى فتح عينيه على «ألفية ابن مالك» ومع هذا فله أسلوبه الرشيق الساحر، وهو ينظم الشعر ويكتب النثر فيصعب على الكثيرين أن يفرقوا بينهما!
روحه صافية مرحة لا يتفق مرحها مع طبيعة المنزل الأزهرى الذى انحدر منه وإليه، إذا أراد أن يضحك الجماد قهقه الجماد، وهو مع هذا يستطيع أن يبكيك إذا تعمد أن تذرف الدمع فإذا لم تصدقنى فطالع مرثية من مرثياته!
راوية ومحدث ممتاز ومقلد بارع، يقلد الأساليب، بل يقلد الأصوات حتى يخيل إليك أن من يقلدهم هم الذين يقلدونه.. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن خفة روحه شقت له الطريق فوصل وحصن المكان الذى وصل إليه بدروع من ألمعيته وأسلحة من ذكائه!
بوهيمى يعيش ليومه وغدا على الله ولو حسب حساب الغد لكان اليوم صاحب رصيد ولو وصل إلى ما وصل إليه من اعتلوا كاهله الضخم ليصلوا إلى غايتهم على أشلائه!
وأخيرًا إلى «فكرى أباظة باشا» حيث كتب يصفه قائلا:
«لما ابتدع أسلوبه احتكر إعجاب القراء حتى شاركه الإعجاب من صقل الأسلوب وأدخل عليه أكثر من تعديل، كاتب رشيق متزن يستطيع دائما أن يثير الإعجاب بما يكتبه لأنه حريص دائمًا على تطعيم مقالاته بمهاجمة الغاصب والتريقة على الاحتلال وحث الأمة على استكمال الاستقلال!
لم أطالع له هجوما متطرفا على حزب مصرى أو سياسى مصرى، قد يغمز أحيانا ولكنه غمز فيه وقار الخمسين ولعلها الستين.
«شغال» وهذه ناحية تصور تقديره للمسئولية، و«فكرى أباظة» لا يعترف بالتعب، ولكن أعصاب عينيه ثارت عليه منذ عام واضطرته لأن يعمل بمقدار وأن يقرأ بمقدار وأن يتبع رجيمًا دقيقًا فى عمله، ولكن هل يستطيع الكاتب الشغال أن يتبع قواعد الرجيم؟!
كان نائبا من طراز منقطع النظير إذا تكلم «غطى» على من حوله، وإذا هاجم حسب الجميع لهجومه ألف حساب ولو أنصفوه لعينوه شيخًا وما أحوجهم إلى دفعة من حيويته!
كاد يصبح وزيرا أكثر من مرة، ولكنه يفلت دائما وبأعجوبة، ليس بعد ذكائه إلا وفاؤه وشلته لم تتغير منذ كان شابا، هذه الشلة التى يعيش لها قبل أن يعيش لنفسه».
وللحكاية بقية!