قصة قصيرة
فانوس
إبراهيم محمد عامر
ذات مساء فى رمضان كنت راجعا من العمل، وأركب «الميكروباص» حين شد انتباهى الولد الذى يقف على بابه. كان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة، وملامحه قاسية بشكل منفر، وكان ممتلئا، يرتدى فانلة بيضاء شديدة الاتساخ، تظهر من فتحتها رأس سمينة سمراء وعينان تتحركان فى توتر وحدة.
يدفع الناس فى غل شديد بيديه الصغيرتين الممتلئتين إلى الداخل المزدحم، ويصيح بهم فى جرأة، أن يعبروا للداخل أكثر، وينادى بنفس الصوت العالى على المحطات إلى الناس فى الطرق.
وكم بدا لى مستفزا، وهو ينحشر فى وقاحة بين الواقفين بجسده الممتلئ، لـ«يلم الأجرة» بعدما نبهه السائق فى مقدمة العربة، غير عابئا بما يسببه من أذى لبنات وسيدات يقفن فى منتصف «الميكروباص».
ودعوت فى سرى إلا يستفزنى بتصرف ما، كى لا أهب فألكمه على خده السمين لكمة يحلف بها ما سيعيشه من عمر، فأعطيته النقود دون أن أنظر حتى إليه.
ثم توقف الميكروباص قليلا عند إشارة مرور.
وصعد بائع فى سن الثلاثين يحمل شنطة بلاستيكية بيضاء كبيرة، ما إن صعد حتى رفع صوته معلنا عن البضاعة التى يحملها، وكانت عبارة عن «فوانيس» صغيرة مبهجة المنظر، أخذ ينورها أمام الركاب، فجذبت أنظارهم وإعجابهم.
وسرت همهمات الإعجاب بين الركاب، ثم بدأوا يشترون منه الفوانيس ليهادوا بها أحبابهم.
وإذا بى أسمع الولد يقول للسائق: يا أبا، أنا هاخد خمسة جنيه أجيب الفانوس ده.
وكنت أحس من البداية أن الولد هو ابن لسائق الميكروباص. لم أر وجه السائق جيدا، بل سمعت صوته يقول فى غلظة: فانوس إيه؟ بقيت شحط وعاوز فانوس!
هتف الولد بصوت فيه حزن: يا أبا أنا مبجيبش لعب خالص.
نهره أبوه فى قسوة، وهتف به: لعبت عليك بطنك. فصمت وظل يتطلع إلى البائع، وهو يبيع الفوانيس للركاب، وينظر لها بين يديه فى لهفة وإعجاب، حتى نزل من الميكروباص، وظل يتبعه بعينيه وينظر للفوانيس فى يديه بينما يبتعد ويختفى بين الزحام، حتى كادت تدهمه سيارة أتت من الخلف مسرعة، تبادل أبوه مع سائقها السباب.
وبقى بقية المشوار صامتا واجما ينظر للطريق فى حزن.
ورغم سلوكه غير السوى فى التعامل مع الركاب، وطرق رده التى تثير الاستفزاز والنفور لم أشعر وأنا أهبط من الميكروباص بذات الكراهية التى شعرت بها تجاهه حين ركبت!.