رشاد كامل
حكايات صحفية
سعد زغلول لمصطفى وعلى أمين: روحوا ذاكروا الأول!
رفضت والدة مصطفى وعلى أمين اشتغال أبنائها بالصحافة وكانت تنهرهما قائلة: سيبوا الكلام الفارغ ده وروحوا ذاكروا دروسكم!
وقرر الولدان أن يذهبا لسعد زغلول ويفاتحاه فى هذه المشكلة لأنه صحفى قديم قبل أن يكون زعيمًا للأمة، وأنه سوف يساعدهما ماديا أيضا، وتتحول مجلتهما المتواضعة إلى مجلة مثل «روزاليوسف»!
ودخل مصطفى وعلى أمين غرفة «سعد زغلول» وعرضا عليه المشكلة واستمع إليهما الزعيم، ثم ألقى عليهما قنبلة، قال لهما: إن الصحافة مثل التعليم لا يجوز أن يشتغل بها الجهلاء، وكما أنه لا يجوز لجاهل أن يفتح جامعة، فلا يجوز لتلميذ السنة الأولى الثانوية أن يفتح جريدة!
وقال لهما: روحوا ذاكروا، وبعد أن تحصلوا على الشهادة العليا اشتغلوا صحفيين!
وخرج الولدان من عند الزعيم محطمين انهارت الآمال الحلوة فشل مشروع المجلة الكبرى، لم يعطهما مليما واحدا، لكنه أعطاهما نصيحة كانت فى نظرهما لا تساوى شيئًا!
ويمضى الأستاذ «محمد السيد شوشة» فيروى فى كتابه «أسرار على أمين ومصطفى أمين» باقى الحكاية قائلا: وشعر - الولدان - أنهما مع مجلة «روزاليوسف» فى محنة واحدة، نفس الظروف ونفس الصدمات ونفس الإفلاس، ولكن الحياة فى مجلة «روزاليوسف» نفسها كانت قصة مثيرة للتوأمين، لم يكونا يعرفان تفاصيلها، ولكنهما كانا يتتبعان أخبارها من أفواه الذين يترددون على بيت الأمة من الصحفيين والكتاب، وقد علما أن «روزاليوسف» بدأت برأس مال قدره خمسة جنيهات»!
ولم ييأس الولدان واستمر عشقهما للصحافة، واتخذا من الأسماء المستعارة وسيلة لنشر ما يكتبانه من أخبار سياسية ومقالات فى أكثر من جريدة ومجلة، ومنها مجلة «الرغائب» التى رأس تحريرها الأستاذ «محمد على حماد» وصدر عددها الأول فى يوم الأربعاء أول يناير سنة 1930، وكان مصطفى يوقع ما يكتبه تحت اسم «حسن». واجتمع مجلس الوزراء وقرر تعطيل مجلة «الرغائب» بسبب رسم كاريكاتورى على الغلاف كان صاحب فكرته «حسن» الذى هو مصطفى أمين، وفى نفس اليوم تم تعطيل مجلة «روزاليوسف» وفكر التابعى فى إصدار مجلة جديدة تحل محل «روزاليوسف» باسم «البرق».
وتمضى رحلة التوأم من مجلة إلى أخرى بدون أن يعلم أو يعرف أحد اسمها الحقيقى، ويقرر مصطفى أمين أن يذهب إلى «روزاليوسف» لمقابلة الأستاذ «محمد التابعى» وأخبرهما البواب أنه مسافر رأس البر!
وسافر التوأم إلى رأس البر - كما يروى المؤلف محمد السيد شوشة - وحجزا غرفة فى لوكاندة «كورتيل» وكانت أكبر لوكاندة فى رأس البر، وكان أهم سبب لاختيارهما أن «التابعى» ينزل فيها، وأخذا يسألان أين يقيم التابعى فى أى غرفة، وراحا يحومان حول الغرفة فى الصباح والظهر والعصر والمساء، ولكن التابعى لم يكن يخرج من الغرفة.
وكان يمضى شهر العسل فى زواجه الأول، وإذا خرج من الغرفة يجدان معه زوجته، ويترددان فى أن يتقدما إليه أثناء صحبته مع عروسه، إنه عريس! ومن غير المعقول أن يتقدم شاب إلى العرس فى مثل هذا الظرف ويطلب منه عملا!
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى حاول فيها مصطفى أن يقابل التابعى، ولقد كتب «مصطفى أمين» يصف هذا اللقاء فقال:
فى عام 1927 مات «سعد زغلول» وفى سرادق المأتم رأيت الأستاذ «التابعى» لأول مرة، وتعلقت بذراع الشيخ «محمود الساعى» «ببيت الأمة» وطلبت منه أن يقدمنى له وقدمنى له وهو يقول: مصطفى ابننا!!
ولم يبد التابعى أى اهتمام بوجودى على الرغم من أننى كنت ارتدى البنطلون الطويل لأول مرة، وعلى الرغم من أننى قلت له أننى معجب به، وأحفظ مقالاته صم! ولكن التابعى قابل هذه التحية بهز رأسه وكأننى أقول له السلام عليكم!
ولم يعجبنى شكل الأستاذ «التابعى» فقد كنت أظنه طويلا وعريضا، وإلا لما تجرأ على انتقاد «يوسف وهبى» وأحمد علام وجورج أبيض، وغيرهم من فطاحل ذلك الحين! ولاحظت أن طربوشه على زاوية حادة حتى ليكاد يقع من فوق رأسه، وكنا نعتبر هذا فى المدرسة علامة من علامات الأنفة والكبرياء!
وكان المدرسون الذين يرتدون طرابيشهم بهذه الطريقة مكروهين منا نحن التلاميذ!
وزاد «الطين بلة» أن الأستاذ التابعى كان «منبوزًا» مع أنى كنت أظن أنه ينكت باستمرار كنجيب الريحانى وعلى الكسار وشارلى شابلن!
ونسيت طبعًا أننا كنا فى مأتم.. وأنه لايلزم مطلقًا أن يكون الكتاب الفكاهيون أراجوزات يتشقلبون فى كل مكان يجلسون فيه.
وأخبرنى الأستاذ التابعى فيما بعد أنه عندما قدمنى الشيخ محمود وقال: هذا ابننا مصطفى! ظن التابعى أننى ابن الشيخ محمود الساعى ببيت الأمة!!
ويمضى الأستاذ مصطفى قائلا: ومرعام.. وسمعت خبرًا سياسيًا ففكرت أن أبلغه للأستاذ «التابعى» وطلبته فى التليفون فرد عليّ ببرود، وأصر على أن يعرف من أنا، فلما قلت له من أنا! قال إنه لا يعرفني! فلما ذكرته بأننى كنت موجودًا فى مأتم «سعد زغلول» قال لى إنه كان فى المأتم مائة ألف نفس ولا يستطيع أن يذكر بالضبط هذا العدد الكبير!
وكان يجب أن أغضب عندئذ من الأستاذ «التابعى» ولكنى لم أهتم بهذه المعاملة القاسية، وداومت على القراءة له والإعجاب به!
ثم يصف مصطفى لقاء رأس البر الخطير بعد ذلك بأربعة أعوام فيقول:
انتهزت فرصة لقائى بالأستاذ التابعى فى رأس البر وكان ذلك عام 1931 فقدمت رجلا وأخرت أخرى وذهبت أقول إننى مستعد أن أقدم له حجرتى فى فندق «كورنيل» لأننى علمت أن الحجرة التى يقيم فيها مش ولابد! وظننت - أنا وأخى - إننا نستطيع بهذه الطريقة أن نصبح صديقين للتابعى، وبعد ذلك نكتب فى مجلته كما نشاء!
ولكن التابعى لم يدعنا وقتئذ للجلوس، تكلم معنا واقفًا ومستعجلًا.. ولا عجب فقد كانت تجلس إلى جانبه فتاته الحسناء وظن التابعى أننا نحاول أن نعطل عليه!». وحسب ما رواه مؤلف الكتاب فإن مصطفى طلب مقابلة التابعى الذى قال له إنه مشغول وأعطاه موعدًا فى مكتبه بمجلة روزاليوسف بعد عشرة أيام!
وفى الموعد المحدد كان «مصطفى» يحمل مظروفًا كبيرًا ويقابل التابعى واستقبله التابعى وقال له: أفندم!
وهنا فتح مصطفى المظروف وأخرج محتوياته وقال للتابعي:
- هذه أخبار سياسية وهذه أفكار صور سياسية وهذه مقالة مسرحية وهذه مقالة سينمائية وهذه مقالة مترجمة وهاتان قصتان!
ماذا كان رد فعل الأستاذ التابعى؟ هو موضوع المقال القادم!