الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ذكريات أحمد عباس صالح

حكايات صحفية

ذكريات أحمد عباس صالح

عشت فى روزاليوسف سعيدًا، خاصة بسبب هذه المرأة الذكية الفاهمة..



هكذا يعترف الأستاذ «أحمد عباس صالح» فى مذكراته المهمة «عمر فى العاصفة سيرة ذاتية»، والحقيقة أن ما كتبه عن السيدة «روزاليوسف» بإعجاب وانبهار هو نفس ما كتبه وسجله كل من اقترب وعرف أو عمل مع السيدة «روزاليوسف».

ويمضى أحمد عباس صالح فيقول: قضيت وقتًا سعيدًا فى مجلة روزاليوسف ولكن أجمل ما فيها من ذكريات هو علاقتى الجميلة بالسيدة «روزاليوسف» التى كثيرًا ما كنت بعد أن أنهى عملى ادخل إلى حجرتها وأصغى إلى أحاديثها، وكانت فى الحق ذات خبرة عميقة بالحياة الثقافية والسياسية فى مصر.

كنت بالطبع أسمع كل القصص التى تروى عادة عن النساء اللائى يشتغلن بالقضايا العامة وخاصة بفن التمثيل، على أنى لم آخذ هذه القصص على أنها مسلمات، فمن الناحية الأخلاقية اعتقدت بعد قليل من الاستماع إلى هذه السيدة أنها على خُلق قويم بل على شيء من المحافظة.

وكانت تعرف كل قصص العلاقات السرية بين رجال ونساء من النخب البارزة يدعون البراءة والنقاء، ولكنها كانت تقول ذلك فى  صيغة النقد، وليس فى صيغة التجريح!

 

 

 

ومن خلال هذه المعرفة يندم أحمد عباس صالح على شىء واحد فيقول: «كانت ملمة بتفاصيل الحياة السياسية وراء الكواليس، وما زلت نادمًا على أنى لم أفكر فى تدوين هذه الأحاديث البالغة الأهمية، على أننى أتذكر أن أحمد بهاء الدين قد نشر شيئا من مذكراتها فى كتاب!

ولكنه اهتم بالجانبين السياسى والتاريخى أكثر من الجانب الاجتماعى والتجربة الذاتية وهذا شىء طبيعى باعتبار اهتماماته!

استقطبت المجلة الكثير من الشباب اليسارى وبلغت المجلة ذروة قوتها فى هذه السنوات التى بدأ فيها نجم «عبدالناصر» يلمع بعد اختفاء «محمد نجيب»، وكنت تجد أعظم رسامى الكاريكاتير وكان الرسام «عبدالسميع» نجمًا ذائع الصيت بسبب اللوحة التى تتصدر غلاف المجلة والتى كانت وحدها بمثابة مقالة ناقدة بالغة العمق.

وبعد ذلك انضم إلينا «صلاح جاهين» و«زهدى» و«بهجت» و«حجازى» و«جورج البهجورى»، أما الكتاب فكان منهم «أحمد بهاء الدين» و«محمود أمين العالم» ومحمد عودة وكامل زهيرى وإسماعيل الحبروك وغيرهم كثير من طلائع المثقفين!

وكان الرسامون يشكلون نخبة مختارة من شباب الفنانين مثل «حسن فؤاد» و«عبدالغنى أبوالعينين» و«جمال كامل».

ويكمل الأستاذ أحمد عباس صالح: «كنت قد تعرفت على زوجتى وخطبتها وكثيرًا ما كنت أتفق معها على أن تأتينى لنخرج معا لحضور دعوة ما أو الذهاب إلى المسرح أو تناول العشاء، وعلى الرغم من أن دخلى من عملى سواء هنا أو فى الإذاعة كان كبيرًا بالقياس إلى زملائى، إلا أن مسئولياتى الكبيرة كانت تجعلنى أحتاج إلى قرض صغير أنفقه فى هذه الليالى الجميلة، وكان عليّ أن أدخل إلى «الست» فى مكتبها وأطلب منها أن توافق على أن يصرف الصراف الجنيهات التى أريدها، وغالبًا ما كانت توافق بعد أن تزجرنى غير جادة بشكل ما!

 

 

 

وكنا فى الصيف فى ذلك اليوم وكانت خطيبتى (زوجتى وأم أولادى بعد ذلك) قد وصلت قبل أن أتمكن من الحصول على السلفة، وقبل أن يغادر الصراف المبنى ولذلك أسرعت واقتحمت حجرتها، لم أطرق الباب كما يتطلب الأمر، ولذلك فوجئت بى واقفًا أمامها، وكانت قد خلعت شالًا يغطى كتفيها وذراعيها العاريتين، فوقفت مذهولا، وخجلًا فى الوقت نفسه من هذا الاقتحام غير المهذب، وحملقت فى كتفيها وذراعيها اللذين كانتا بالغى الجمال، كأنهما لفتاة فى العشرين من عمرها!

كانا بلون بشرتها الصافية ا لمشربة بالحمرة، وكانا بغير شك يدعوان إلى الإعجاب بل الدهشة لامرأة فى سنها!

لعلها لاحظت ذلك فغضبت غضبًا مفتعلًا، لكنها شعرت بالخجل كامرأة وسارعت بتغطية كتفيها وذراعها بالشال، وكأنها عذراء تفاجأ برجل يقتحم خلوتها وخصوصيتها!

أعطتنى موافقتها المكتوبة للحصول على القرض ثم قالت لى مازحمة:

- لست أدرى ماذا وجدت فيك هذه البنت الحلوة لتتعلق بك؟

وكانت تحب امرأتى وترحب بها عندما تلتقى بها أثناء قدومها لنخرج معًا!

 

والآن يبدأ أحمد عباس صالح فى ذكرياته مع الكتابة فيقول:

كنت مهتمًا بالتراث الشعبى وكان «أحمد رشدى صالح» و«عبدالحميد يونس» و«سهير القلماوى» قد بدأوا يهتمون بالفلكلور ويترجمون الكتب والمراجع ويتحدثون عن فن الشعب الذى كان متمشيًا تمامًا مع الاتجاهات التى تتحدث عنها الثورة وهو اتجاه كان سائدًا فى العالم كله، وصار الفنانون يلتمسون هذه الفنون الشعبية فى كل شيء: فى الموسيقى وفى الرسم وفى النحت والأدب.

وتمشيًا مع هذا الاتجاه رحت أنشر قصصًا من الأدب الشعبى أو من الأدب العربى القديم، ولأن عملى الكبير كان إعادة كتابة سيرة «عنترة بن شداد» التى كنت أحبها وكنت أصغى لها صغيرًا وأمى تقرأها على «أبى» فى ليالى الشتاء بين طقطقات «أبوفروة» الذى كان يوضع على صفيح فوق «وابور الجاز» كنت أسمع وأنا بين النوم واليقظة صوت أمى الرتيب وهى تقرأ فأصحو وأذهب إلى «حجر أبى» الذى كان يلقمنى من حبات هذه الثمرة اللذيذة، وهو يصغى بشغف، فتلتقط أذناى بعض الكلمات فتبدو كالحلم اللذيذ!

أحببت هذه السيرة التى كانت منشورة فى مجلدات هى عبارة عن الإضافات العديدة التى راح يزيدها الرواة أو قل شعراء الربابة جيلا وراء جيل حتى بلغت صفحاتها الآلاف المطبوعة على ورق أصفر باهت وقديم!

ولست أذكر متى بدأت قراءة هذا الأدب ولكننى أذكر وأنا فى السابعة من عمرى تقريبًا أن أمى اختطفت منى كتاب «ألف ليلة وليلة» ومنعتنى من قراءته ولم أعرف السبب إلا عندما كبرت شيئا ما وقرأت فيه عبارات الأدب المكشوف المنتشر فى كثير من قصصه!

كانت جدتى لأبى امرأة قاهرية من أسرة قديمة فى القاهرة وكانت تحفظ من الحواديت العشرات وتضع رأسى فى حجرها وتحكى لى من الحواديت ما لم أنسه أبدًا!

كنت أفكر فى هذه الحواديت وأنا أستمع إليها من هذه الجدة وكانت تملأ خيالى بالبهجة وتطرح على ذهنى أسئلة كثيرة، ولعلى لهذا عندما بدأت أعيد كتابة هذا الأدب الشعبى كنت أقرأه قراءة جديدة بقصد تفسيره واستخراج المعنى الذى تنطوى عليه القصة أو الملحمة، وهكذا فعلت بالنسبة لسيرة عنترة وبالنسبة لسائر الحواديت الأخرى.

كتبت هذا الجزء من الملحمة فى روزاليوسف، والغريب أن هذه الحلقات شدت انتباه القراء لدرجة أننى كنت قد انشغلت بشيء ما فتوقف نشر بعض الحلقات، فإذا بالرسائل والمكالمات التليفونية تغرق المجلة، والطريف أن السياسى الوفدى القديم وزير الخارجية السابق «محمد صلاح الدين» جاء إلى المجلة ليعرف لماذا توقف نشر هذه السلسلة. 

وفي هذه الفترة كان من العبث أن أستمر فى الوظائف الحكومية وقررت أن أتفرغ للعمل الصحفى! وللذكريات بقية!