الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أعضاء مجلس قيادة الثورة يزورون ا لسيدة «روزاليوسف»!

حكايات صحفية

أعضاء مجلس قيادة الثورة يزورون ا لسيدة «روزاليوسف»!

فى ظروف سياسية وصحفية بالغة الصعوبة والتعقيد، بدأ الكاتب الصحفى الشاب «أحمد عباس صالح» مشواره الصحفى والمهنى فى مجلة «روزاليوسف» مشرفًا على ملزمة الثقافة والفن المعروفة بالملزمة الحمراء.



وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين مسئولاً عن كل ما يتعلق بالسياسة.

 

فى هذه الأجواء التى عاشها أحمد عباس صالح يتذكرها فى كتابه «عمر فى العاصفة سيرة ذاتية»، حيث يقول:

كانت المجلة مغضوبًا عليها منذ حبس إحسان عبدالقدوس رئيس تحريرها، وكان مازال محبوسًا عندما انضممت إلى المجلة، وبالتالى كانت الرقابة تعاكس المجلة.

وكان لدينا محرر مرضىّ عنه «ممدوح رضا» ويقال إن له علاقة بأجهزة المخابرات، وكان هو الذى يأخذ مقالات المجلة إلى مكتب «صلاح سالم» الذى كان وزيرا للإرشاد والرقيب العام فى الوقت نفسه، وكان قد ترك مهمة الرقابة لنائب له هو اليوزباشى «محمد أبونار» الذى كان من ضباط الصف الثانى للثورة.

وكان الرجل يراجع المواد وربما بواسطة مساعديه فيعيدها إلينا، وقد شطب نصفها، وكان هذا يحدث يوم الجمعة، إذ أن طبع المجلة يبدأ من يوم السبت ويستمر إلى يوم الأحد، لتطرح المجلة فى السوق صباح الاثنين، وكان هذا يقتضينا أن نسهر للصباح أحيانًا لنعد مواد أخرى غير التى شطبها الرقيب وقد أصبح شبحًا كريهًا بالنسبة لنا.

وكان «بهاء» ربانًا ماهرًا يخوض هذا البحر المتلاطم بحذر وذكاء، وكان يُدرك أن أعضاء الثورة يهمهم أن تظهر أخبارهم فى المجلة التى كانت لها شهرة جيدة، فكان يعاقب من يريد معاقبته منهم بعدم ذكر اسمه على الإطلاق، وظللنا على هذا الحال إلى أن تقرر الإفراج عن «إحسان عبدالقدوس».

 

 

ويمضى أحمد عباس صالح فيتذكر تلك الأيام قائلا:

لا أذكر اليوم الذى أفرج فيه عن إحسان عبدالقدوس ولعله كان فى سنة 1955، وعندما عاد إلى العمل كان يومًا عظيمًا بالنسبة لها - فاطمة اليوسف - وأظن أنه بعد يوم أو اثنين جاءها خبر بأن وفدًا من مجلس قيادة الثورة جاء ليزورها ويهنئها بالإفراج عن ابنها علامة على المصالحة وعودة إلى الصداقة القديمة التى كانت تربط بين «إحسان» والكثيرين من قادة الثورة، وكان الوفد على ما أذكر مكونًا من «جمال سالم» و«عبداللطيف البغدادى» وربما شخص آخر.

كنت واقفًا فى حجرتها ونحن نترقب وصول هذا الوفد، وكان لديها «بوف» تضع عليه ساقيها عندما يتعبها الجلوس، وفى هذه اللحظة دخل ساعى مكتبها مسرعًا ليقول لها إن الضباط قد وصلوا وأنهم يصعدون السلم الآن، فأشارت إليه بسرعة أن يقرب «البوف»، وما أن فعل حتى مدت ساقيها عليه، ودخل الضباط ليسلموا عليها، فمدت يدها إليهم معتذرة بعدم قدرتها على الوقوف على قدميها بسبب آلام فى ساقيها، وتقبل الجميع هذه الحجة ولعلهم انحنوا على يدها فقبلوها، وجلسوا جميعًا قليلًا ريثما شربوا شيئًا من القهوة أو العصائر.

وراقبتها وهى تتصرف كامرأة عظيمة دون أن تهتز لها شعرة وكانت تعطى انطباعًا بأنها غاضبة لما حدث لابنها، ولكنها تتقبل الاعتذار ولا تقدم الشكر على الإفراج عنه!

عندما انصرفوا كنت واقفًا فى الحجرة أنظر إليها بإعجاب شديد فقامت واقفة ونظرت إلىّ وكأنها تقول: هل أعجبك هذا يا ولد؟

ويمضى أحمد عباس صالح فى رسم صورة إنسانية للسيدة «روزاليوسف» بقوله:

تعرفت على السيدة «روزاليوسف» عن قرب، إذ كانت تداوم على الحضور يوميًا إلى المجلة، وكانت هى المديرة المالية للمجلة حتى فى حضور ابنها، كانت امرأة فى حوالى الخامسة والستين من عمرها أو أزيد قليلا، كانت مازالت امرأة جميلة مع أنها كانت أميل إلى القصر، وعلى شىء من البدانة بالطبع بالنسبة لهذه السن، ولكنها كانت مليئة بالحيوية وكانت متزوجة - فيما أظن - من ابن قاسم أمين الذى كان له عمل بالصحافة من قبل!

كنت أتأمل هذه المرأة التى قيل إن مشاهدى المسرح فيما بين الحربين كانوا يطلقون عليها «سارة برنار الشرق»!

كان لها صوت رفيع رنان ربما يصل فى طبقاته العليا إلى قوة آسرة أعجبت معاصريها، وكان بياض بشرتها مشوبًا بحمرة خفيفة ولم يكن فى وجهها شائبة ما، وكانت تمشى مستقيمة القامة مرفوعة الرأس، وئيدة الخطوة ولكن بثبات، وكانت قد تعودت أن تأمر فتطاع، ولعله لهذا السبب كانت تبدو أحيانًا قاسية نوعًا ما. وكثيرًا ما كنا نسمع صوتها وهو يجلجل غاضبًا لأمر ما وهى توبخ أحد العاملين بالمجلة.

 

 

 

ويسترسل أحمد عباس صالح فى ذكرياته الممتعة فيقول:

«لست أذكر ما هى الدواعى التى كانت تدعونى إلى الدخول فى حجرتها وكنت -فى الواقع- معجبًا بها كامرأة قوية استطاعت أن تنشئ هذه المجلة القوية على الرغم من أن تعليمها الرسمى كان ضئيلا جدًا، بل قيل إنها لم تكن تعرف القراءة والكتابة حين جاءت إلى مصر فى سن صغيرة، وتلقت دروسًا فى اللغة حتى استطاعت النطق بلغة عربية سليمة!

واشتغلت مع مخرجين كبار مثل «عزيز عيد» الذى يُعتبر أحد مؤسسى المسرح المصرى منذ بدايات القرن العشرين، جاءت من عائلة مسلمة من لبنان، وبمساعدة المتمصّرين الشوام عمومًا والعاملين فى مجال التمثيل والصحافة وجدت طريقها إلى المسرح ونبغت فيه حتى أصبحت النجمة المسرحية الأولى فى البلد!

ولعلها فى البداية تزوجت الممثل الكوميدى «محمد عبدالقدوس» والد إحسان عبدالقدوس ثم تزوجت بعد ذلك «زكى طليمات»، فأنجبت منه ابنة «آمال طليمات»، ومن المؤكد أنها كانت محط أنظار رجال عصرها من النخب المثقفة فى مصر، وكان تأثيرها عليهم كبيرًا حتى إنها عندما فكرت فى إنشاء مجلة انضم إليها كبار الصحفيين والكتّاب من أمثال محمد التابعى والعقاد، واستطاعت أن تستمر بالمجلة إلى اليوم رغم كل الظروف الصعبة التى صادفتها المجلة وهى مهددة بالإغلاق.

كانت شديدة الذكاء، قوية الملاحظة لديها إحساس طاغ بأنوثتها حتى فى هذه السن، ولست أدرى كيف اكتسبت هذه القوة فى مقاومة الأحداث وأعتى الرجال، وكان لديها إحساس قوى بذاتها وبكرامتها.

وفى هذا الوقت لم يكن لديها مشاكل مالية، وكانت تدير المجلة بكفاءة عالية واختيارها لأحمد بهاء الدين لسد فراغ ابنها المحبوس دليل على كفاءتها فى الاختيار، وبالفعل كانت تفاجئنى بآرائها البالغة النضوج فى كتابات الكُتّاب الذين يكتبون فى المجلة أو فى غيرها من الصحف.

وكانت تعيش حياة مطمئنة - بشكل ما - مع زوجها الذى ينحدر من صلب ذلك الرجل الذى دعا إلى تحرير المرأة فى السنوات الأولى من القرن العشرين، تسكن فى شقة جميلة فى الدقى وتدعو إلى بيتها أحيانا بعض العاملين معها أو الأصدقاء، وكانت ماهرة فى الطهى أيضًا، وشغوفة بالحياة وكانت تملك سيارة أقرب ما تكون إلى الفخامة يقودها سائق قديم».

وتستمر ذكريات وحكايات أحمد عباس صالح مع «روزاليوسف»!