الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أحمد عباس صالح يتذكر

حكايات صحفية

أحمد عباس صالح يتذكر

كانت الشهور التى تلت قيام ثورة 23 يوليو 1952، حافلة بالأحداث السياسية والصحفية، فقد أنشأت الثورة مجلة «التحرير»، ثم جريدة «الجمهورية» لتعبر عن سياستها ومبادئها.. وفى هذا المناخ الصاخب والساخر كان الشاب أحمد عباس صالح قد بدأ رحلة احترافه الصحفية.



 

وفى مذكراته «عمر فى العاصفة: سيرة ذاتية» يصف ذلك الجو بقوله:

«عندما انضممت إلى محررى جريدة الجمهورية، وأذكر أننى كنت أجلس فى حجرة واحدة مع «سامى داود» الذى كانت لديه نزعات اشتراكية ومع «عميد الإمام» الذى كان فلسطينيًا من الممكن أن يحسب على اليسار أكثر من أى شىء آخر، وكذلك كان «محمد على ناصف» الذى كان ملحقًا فى سفارة مصر فى واشنطن قبل أن ينضم إلى أسرة تحرير جريدة الجمهورية، وكان يعتقد أن مكارثى يؤيد العرب فى الصراع العربى - الإسرائيلى.

وكان هناك أيضا شاب أسمر نحيل القامة لم يزل يلبس الطربوش هو «عبدالعزيز عبدالله» الذى جاء إلينا من الجامعة الأمريكية والذى برزت مواهبه فى العمل النقابى بعد ذلك، فى هذه الحجرة العجيبة التى كانت تشكل مطبخ الجريدة جاءنا «خالد محمد خالد» لأول مرة ليشترك فى الكتابة كان شابًا نحيلاً دخل هذه الحجرة مترددًا إذ أدرك على الفور أنه يدخل مكانًا على اليسار منه، على الرغم من سمعته الثورية منذ كتابه «من هنا نبدأ».

وربما كان هذا الوضع معبرًا تمامًا عن طبيعة الثورة وفسيفسائها المتعددة!  

 

 

 

ويمضى أحمد عباس صالح فى مذكراته فيكشف عن جوانب مثيرة، قائلاً:

كان اهتمام الثورة بالإذاعة سابقًا لكل اهتمام بسائر وسائل الإعلام ومنها الصحف، وسرعان ما أنشئت إذاعة صوت العرب التى كانت موجهة إلى البلاد العربية، وكانت صوتًا جديدًا بالنسبة للإذاعات، واستطاع أحمد سعيد وهو إذاعى شاب موهوب أن يجعلها صوتًا مسموعًا.

وكنت أعرف أحمد سعيد، ولعلى اشتركت فى كتابة التمثيليات بناء على طلبه، وأذكر أنه استدعانى ذات يوم وطلب منى أن أكتب تمثيلية قوية ضد الاستعمار البريطانى بغرض تعبئة الجماهير العربية ضدهم.

ويقول أحمد عباس صالح إنه كتب تمثيلية أخرى عن حادثة 4 فبراير 1942 بناء على طلب المخرج السيد بدير الذى سمّاها «مصاصو الدماء» وبعد إذاعة التمثيلية قامت الدنيا ولم تقعد، بل إن والده صرخ فيه قائلاً: كيف تكتب فى الإذاعة الحكومية مثل هذا الكلام الصارخ الشيوعى؟!

وتم التحقيق معه داخل الجريدة فى حجرة أنور السادات نفسه المسئول عن دار التحرير وجريدة الجمهورية، وبعد ساعات طويلة من التحقيق طلب منه «صلاح سالم» أن ينصرف.

ويتذكر أحمد عباس صالح قائلاً:

وقفت ثوانى مترددًا ثم استدرت خارجًا وخرج فى أثرى حسين فهمى رئيس التحرير الذى كان فرحًا بالنتيجة وقال لى إن الموضوع قد انتهى وهنأنى على ذلك، ولكنى سألته عن الرجل الجالس ورائى والذى أعطى الأمر بإنهاء التحقيق فقال: إنه جمال عبدالناصر.

وعندما ذهبت إلى الجريدة فى ظهر اليوم التالى جاءنى سكرتير رئيس التحرير ليعطينى خطاب فصلى من العمل، وفى اليوم نفسه علمت أن لافتة كبيرة وضعت على الباب الخارجى لمبنى الإذاعة بمنعى من الدخول!

كنت العائل الأول المسئول عن أسرتنا المكونة من تسعة أبناء والوالدين، وكان فصلى من العمل بالجمهورية ومنعى من الكتابة للإذاعة كارثة بمعنى الكلمة وكنت ما زلت موظفًا بالأزهر وكان مرتبى من هذه الوظيفة هو الدخل الأقل فى جميع نشاطاتى، ولكنه كان رقمًا موجودًا على أى حال!

فى ذلك الوقت رأت الولايات المتحدة أن تنشئ إذاعة فى القاهرة باسم «صوت أمريكا» وبدأت تستعد لتوظيف بعض الإعلاميين المصريين والعرب، وطوال عملى بالإذاعة المصرية تعرفت على الكثيرين، وبصفة خاصة من المخرجين وكان لى صديق طيب هو كامل يوسف الذى قضى فترة غير قصيرة فى بريطانيا يدرس التمثيل والإخراج، وعرف كامل يوسف ما حدث لى، ومنعى من العمل فى الإذاعة المصرية، فجاءنى وعرض علىَّ أن أكتب للإذاعة الأمريكية التى يستعدون لها.

ولم تستمر تجربة أحمد عباس صالح طويلاً، وكما يقول خلال حوالى شهرين أو ثلاثة حصلت على مائتين وأربعين جنيهًا غطت بالفعل احتياجاتى، إلا أنهم فيما يبدو تبينوا أننى لن أكون مؤيدًا لهم وأننى أتغابى وأختار الموضوعات غير المناسبة لمشروعهم الدعائى، وهكذا انقطعت صلتى بهم نهائيًا.

وتمضى الذكريات والسيرة الذاتية فيقول أحمد عباس صالح:

بعد حوالى أربعة أشهر وبعد أن انتهت أزمة مارس سنة 1954 أصبح على المثقفين أن يتعايشوا مع الجولة الجديدة، وكانت الثورة قد ألقت القبض على «إحسان عبدالقدوس» الذى كان رئيسًا لتحرير «روزاليوسف» ووضعته قيد الاعتقال، مما ألجأ السيدة «روزاليوسف» أو قل «فاطمة اليوسف» والدته وصاحبة المجلة إلى إسناد عمل ابنها إلى «أحمد بهاء الدين» الذى كانت علاقته بالمجلة أن يقدم لها كل أسبوع عمودًا صغيرًا تحليلاً للأخبار الجارية.

 

 

 

كان «بهاء» كاتبًا سياسيًا موهوبًا التقطته السيدة «فاطمة اليوسف» وطلبت منه أن يقوم بأعمال رئيس التحرير حتى الإفراج عن ابنها!

وكان «بهاء» صديقًا لى، وكنت أنشر قصصى القصيرة فى مجلة «الفصول» نيابة عن «زكى عبدالقادر»، واستطاع بهاء بالفعل أن يضم إلى هذه المجلة عددًا كبيرًا من الكتاب الجدد منهم: «عبدالرحمن الشرقاوى» و«فتحى غانم» و«مصطفى سويف» و«نعمان عاشور» و«يوسف الشارونى» وغيرهم.

وكنت أنا الأكثر ارتباطًا بالصحافة منهم بسبب اشتغالى المبكر فى مجلة «التحرير» ثم فى الجمهورية، ولعله لهذا السبب فكر «بهاء» فى الاستعانة بى فى مجلة «روزاليوسف» فاتصل بى للعمل معه، وعندما قلت لى إننى ممنوع من العمل قال لى:

- ألست تعرف أنور السادات؟ اذهب إليه وقل له: إننا سنعمل معًا فى مجلة «روزاليوسف»:

- وبالفعل ذهبت إلى السادات فى مكتبه فى جريدة الجمهورية فاستقبلنى استقبالاً جيدًا كعادته، وطلب منى أن أنتظر خارجًا حتى يتصل بالتليفون!

علمت بعد ذلك أنه اتصل بعبدالناصر، وبعد قليل استدعانى وقال لى إننى أستطيع أن أذهب للعمل مع بهاء، وأضاف وكأنما يريد أن يعتذر عما حدث لى من فصل وإبعاد عن الإذاعة إنهم «أى هذا المجلس المكون من ضباط الثورة الذين حاكمونى» كانوا يريدون فصلى من الأزهر أيضًا لولا تدخله هو وإلحاحه فى إبقائى فى هذه الوظيفة.

ويقول أحمد عباس صالح: كان السماح لى بالعمل فى «روزاليوسف» يعنى أيضًا إبطال القرار السابق بمنعى من العمل فى الإذاعة، وبالفعل أصبحت أستطيع العودة للكتابة للإذاعة.

وانضممت إلى «بهاء»، حيث أصبحت مسئولاً عن إعداد «الملزمة الحمراء» كما كانت تسمى حينذاك، لأن اللون الأحمر يظهر فيها وهى الملزمة المعنية بالثقافة والفنون بشكل عام، وكان «بهاء» مسئولاً عن كل ما هو سياسى.

كانت المجلة مغضوبًا عليها منذ حبس إحسان عبدالقدوس رئيس تحريرها والذى كان قد كتب مقالاً عنيفًا أثناء أزمة مارس، وكان مازال محبوسًا عندما انضممت إلى المجلة، وبالتالى كانت الرقابة تعاكس المجلة. وللحكاية بقية!