الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
بتوقيـع العقـاد

أحمد عباس صالح: نعم المكوجى لا يعرف عنوان بيتك

بتوقيـع العقـاد

فوجئ الكاتب الشاب «أحمد عباس صالح» بطلب د.لويس عوض أن يقوم بإجراء حديث صحفى مع الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد».



وكان أحمد عباس صالح لا يحب العقاد كما اعترف فى مذكراته «عمر فى رحلة سيرة ذاتية»، ومع ذلك يعترف بأنه قرأ له الكثير من أعماله الرائعة مثل كتابه عن «ابن الرومى» الشاعر العباسى العظيم وكتابه عن الزعيم سعد زغلول، الذى كان تحفة فى أدب السير وكتبه الأخرى التى كانت بالنسبة له ممتعة خاصة تلك الكتب التى كتبت بعيدًا عن آرائه السياسية!

ويضيف: وبالنسبة للعبقريات التى كتبها عن الخلفاء الراشدين وبعض آل البيت فقد فتنت بكتابه عن «الحسين بن على» واستشهاده إذ كان بحثًا علميًا غير مسبوق، ومثيرًا لدهشة الذين تعودوا أن يقرأوا الدراسات الأوروبية ويعجبوا بها، وأعتقد أنه كان له تأثير كبير عليّ حين بدأت أخطط لكتابة كتاب «اليمين واليسار فى الإسلام»..

وعلى الرغم من ذلك لم أكن أحب العقاد وخاصة بعد ارتمائه فى أحضان أحزاب الأقلية ومحاربة كل الاتجاهات الشعبية».

••

وتمضى ذكريات أحمد عباس صالح وحكايته مع العقاد فيقول:

اتصلت بالأستاذ «العقاد» وحصلت على موعد وكان بيته بمصر الجديدة ولم تكن لى خبرة بهذا الحى الذى كان بعيدًا بالنسبة لنا وقلما كنا نرتاده؛ ولست أعرف هل بسبب هذه الكراهية والتى من الممكن أن تؤدى إلى شيء من عدم الاحترام أو بسبب سوء تربيتنا وعدم إدراكنا لأهمية الالتزام بالمواعيد أو لكل هذه الأسباب مجتمعة وصلت متأخرًا ساعة كاملة!! والحق أن جزءًا كبيرًا من هذا الوقت ضاع فى السؤال عن العنوان والبحث عنه، وعندما ضغطت على جرس الباب ولم أجد جوابًا سريعًا عدت فضغت على جرس الباب مرة ثانية وثالثة، وهنا سمعت صوتا أقداما داخل الشقة ولكن الباب لم يفتح، وعندئذ ضغطت مرة أخرى ولم أدرك ما أحدثه تأخيرى على الأستاذ العقاد الذى كان حريصًا على المواعيد بشكل قاطع ولأنه ربما يكون معتقدًا بأنه مغضوب عليه من رجال الثورة وأن هذا الصحفى القادم إليه من جريدة الحكومة نوع من الاختبار، ثم هذا الإصرار على دق الباب رغم عدم الرد هل له معنى ما؟!

كنت كالريفى الساذج الذى يخوض فيما لا يعلم، على أنه بعد قليل من التردد فتح الباب فظهر أمامى خادم نوبى أو أسوانى صاح فيّ غاضبًا:

الأستاذ مش موجود!

فقلت له مندهشًا: ولكن لدى موعد معه فكيف يكون غير موجود؟!

وهنا لمحت شبحًا يختفى وراء الرجل وكان هو «العقاد» نفسه الذى كان يغلى من الغضب وكان يلبس بيجامًا مقلمة وطرطورًا فوق رأسه من نفس القماش على الأغلب، وكان الغضب قد بلغ ذروته حتى إنه لم يتمالك إلا أن يظهر ويؤنبنى ويرفض مقابلتى.

دفع «العقاد» خادمه وواجهنى، ويبدو أنه كان يتوقع أن يرى شخصًا ضخم الجسم عابس الوجه يتحدث باسم الثورة العسكرية مغترًا بمصادر هذه القوة، لكنه بدلا من ذلك وجد شابًا نحيلًا فى البدايات الأولى من سنيه العشرينات مرتبكًا ومرهقًا من كثرة السعى بحثًا عن العنوان.

فقال لى: لقد تأخرت وقد ظننت إنك لن تأتى فخلعت ثيابى واستعددت للنوم!

فقلت معتذرًا: إننى كنت أبحث عن العنوان لأننى لا أعرف مصر الجديدة جيدًا.

فقال والغضب مازال مسيطرًا عليه: هل فى مصر إنسان لا يعرف بيت العقاد؟

كان منفعلا وكان مضحكًا فى طرطوره وعصبيته العنيفة وعينيه المتورمتين فقلت له وأنا تقريبًا اضحك: نعم المكوجى تحت البيت لا يعرف العنوان؟!

صمت قليلًا ثم ضحك ويبدو أن خادمه كان لسبب ما مقاطعًا لهذا المكوجى ولهذا لم يتعاون معى عندما سألته عن العنوان، ونظر إليّ العقاد قليلا ثم قال: سوف استقبلك لكن إياك أن تظن أننى خائف من الثورة أو من «محمد نجيب»؟!

وأفسح لى مجالًا لأدخل حيث تابعته إلى أن دخلنا حجرة جلوس عادية مثل أغلب هذه الحجرات فى بيوت أبناء الطبقة المتوسطة وقال بشيء من العتاب أو الحزن:

- أنت ترى أن عينى متورمتان وإننى كنت طريح الفراش لمدة أسبوعين وأنت أول ضيف أسمح له بالمجىء بعد المرض!

••

وهنا بالضبط بدأت نظرة أحمد عباس صالح تتغير تمامًا فيقول:

انقبض قلبى وبدأت اكتشف كيف كنت سخيفًا وجاهلًا، ولأمر ما شعرت بأن هذا الرجل أقرب إلى أن يكون أبى وأننى قد أذيته دون أن أدرى، ويبدو أنه لاحظ غضبى على نفسى وإحساسى بالذنب فبدأ يتلطف فى الحديث وطلب عصير الليمون والقهوة واسترخى فى مقعده وراح ينظر إليّ جيدًا ويقول: هل هذه ثورة؟ إنها ثورة مضادة؟!

حملقت فى وجهه وخطرت على ذهنى الخاطرة التى كانت مخبأة فيه: هل هذه الثورة بديل للثورة التى كانت متوقعة؟! و... و.

كنت أتكلم معه بحرية تامة وكنت أواجهه بالاتهامات التى كان اليسار يهاجمه بها وكنت على طبيعتى تمامًا لا أتكلف أو أحذر من شيء حتى تلك التهم الجارحة أحيانًا، والغريب أنه كان يحتملنى، وعندما انتهت جلستنا كنا قد أمضينا حوالى ثلاث ساعات نتكلم وكنت قد رأيت رجلًا جديدًا واسع المعرفة ملمًا بأدق تفاصيل الدراسات الفلسفية ونظرياتها سواء فى اليمين أو فى اليسار، وكان مفكرًا عقلانيًا ويعلم الكثير عن التاريخ الإسلامى والأفكار الأساسية فيه.

حقًا لم يكن يحب الجماهير وأن على المفكرين المبدعين ألا يعرضوا بضاعتهم على الغوغاء.

حدثنى العقاد عن عبث أشياء كثيرة وأنه خير لهذا العالم أن يقتصر عدد البشر فيه على مائتى مليون من النبهاء والمثقفين من أن يعيش فيه عدة مليارات من البشر لا قيمة لهم فى اعتقاده.

بالطبع لم أضمن الحديث شيئا من هذا، إذ تركز حديثنا للنشر فى قضايا متعلقة بإعادة كتابة التراث والفرق بينه وبين «طه حسين» و«محمد حسين هيكل» وبعض القضايا الفكرية العادية، وكان جريئا كعادته وربما كان قاسيًا عندما تحدث عن طه حسين وكان يسميه «الشيخ طه».

وعندما أخذت الحديث إلى الجريدة وقرأه لويس عوض وإسماعيل مظهر ترددا وخشيا إذا نشراه واحتج عليه من جاء ذكرهم أن ينكر ما قاله لى ويوقعهم فى حرج فطلبوا منى أن أذهب إليه مرة ثانية وأطلب منه التوقيع على الحديث! ومع إنه كان مطلبًا سخيفًا إلا أننى أخذت المقال بعد أن أعددت صياغته النهائية وذهبت إلى العقاد وقرأته عليه، فلما أقره طلبت منه أن يضع توقيعه عليه ففعل دون تردد!!

ويمضى أحمد عباس صالح فى ذكرياته الممتعة فيقول:

«ضاع من ذاكرتى متى وكيف نشأت علاقة حميمة إلى حد ما بينى وبين الأستاذ العقاد لكننى أتذكر إنه كان يتصل بى تليفونيًا ويسألنى ما إذا كنت مشغولًا أو لدى بعض الوقت فكنت أقول بالطبع أنه ليس لدى أى شيء وأننى جاهز للقدوم، وكان عادة ما ينزل من بيته فى مصر الجديدة ويأتى إلى ناشر أعماله «صبحى» صاحب مكتبة الأنجلو المصرية الشهيرة حيث نجلس خلف قاطوع للكتب ونتحدث فى كل شيء، وقد تبينت بعد ذلك أنه غالبًا ما يكون خائفًا أو متعبًا عندما يتصل بى - فأجده متوترًا وغاضبًا ويفتح معى على الفور حديثًا فى سب الدنيا وكانت لديه مشاكل صحية فى القولون كثيرًا ما كانت تؤلمه أشد الألم وقد مات بهذا الداء فعلا!».

ولذكريات أحمد عباس صالح بقية!