الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
العالم يتكلم مصرى

العالم يتكلم مصرى

قبل هذا المقال بساعات كانت مصر قد أنهت أزمة فى اليوم الثانى للهدنة، أوقفت فيه حماس تسليم المحتجزين لديها حسب الاتفاق، وهددت إسرائيل فيه باستعادة القصف خلال 12 ساعة ما لم يجر ما تم الاتفاق عليه . 



استعادت مصر السيطرة من جديد.. وأطُلق الأسرى.. ونقلهم الصليب الأحمر. ودخلت الهدنة يومها الثالث .  بحسابات المكسب والخسارة .. خسرت إسرائيل.. وخسرت حماس أيضًا. الرابح كان الأبرياء فى غزة .. والدولة المصرية. 

 

كتبت مصر سطرًا جديدًا من سطور البطولة الإنسانية فى صفحة من صفحات التاريخ . لم تكن جهود إقامة الهدنة سهلة ولا كان الطريق ممهدًا بالورود. لم يكن من المتصور إقرار هدنة من الأساس، وظل هذا هو السائد لدى الناظرين من الخارج وحتى قبل إقرار الهدنة بساعات. 

كتبت مصر السطور كما أرادت.. كما كانت تقول وتنادى منذ اندلاع الأزمة. امتلكت مصر زمام الأزمة وتوجه العالم إلى رئيس الدولة المصرية، تحدث إلى مصر الجميع. أكثر مكالمات للرئيس الأمريكى بايدن خلال الأزمة كانت مع عبد الفتاح السيسى. تكلمت مصر مع الجميع.. مع إيران ومع تركيا.. كما حددت المسارات لتل أبيب وحماس . 

(1)

على قناة إسرائيلية شهيرة.. ظهر محلل محتد قال إنه ينتظر أبناءه الرهائن لدى حماس كى تأتى له بهم المخابرات المصرية.. وقال إنه يتابع الإعلام المصرى كى يعرف منه الجديد. 

إقرار الهدنة انتصار مصرى خالص. جهود مصرية خالصة، بين الأزمة والدخول إلى هدنة ساعات طويلة مطولة من العمل، لدى الأطراف المختلفة.. مع تشدد الأطراف المختلفة، ومع تهويمات فكرية لدى الأطراف المختلفة. 

عندما يتكلم السلاح يسكت صوت العقل، لكن صوت العقل.. لم يغب عن القيادة المصرية. 

امتلكت مصر حكمة القوة.. وقوة الحكمة، ودخلت الأزمة منعطفا كبيرًا ومهمًا بإقرار الهدنة. 

على رقعة الشطرنج، يغير كثيرون آراءهم بين ليلة وضحاها. كثيرًا ما يكون الحياد خيانة فى الملمات، لكن بعضهم يحايد، وبعضهم يصمت، وبعضهم ربما يتلاعب، أو قل يمارس ألعابًا خطرة.. من منطلقات المصلحة.. ولا شىء غير المصلحة. 

مصر منطلقاتها أخلاقية ومسئولياتها يفرضها التاريخ والجغرافيا. 

ثوابت مصر منذ اندلاع الأزمة لم تتغير، كما لم تتغير ثوابتها منذ اندلع الصراع الإسرائيلى الفلسطينى فى الشرق الأوسط. 

أسقطت مصر مخططًا تعاد حياكته من آن لآخر. ربما توقفت نبرة التهجير إلى سيناء الآن، لكنها فكرة لن تموت.. وربما تظل حية تحيُّنًا لفرصة أو عندما يحين الوقت. 

فرضت مصر رؤيتها فى الأزمة الأخيرة وثوابتها انطلاقًا من قوة الحكمة، وحكمة القوة : لا تهجير إلى سيناء أو إلى أى أراض أخرى. حقوق الشعب الفلسطينى لا بد مصونة، وأن تلك الأزمة، ومن ثم القضية الفلسطينية برمتها لا بد لها من حلول على الأرض الآن وليس غدًا. 

 

 

 

 

(2)

قبل 7 أكتوبر.. مختلف تمامًا عن ما بعد ذلك اليوم، زوايا الاختلاف متباينة.. لكن على الأقل، فإن الوضع لا يمكن أن يظل على ما هو عليه الآن.. أو ما كان عليه خلال القصف الإسرائيلى الوحشى للأبرياء فى غزة. 

بالمناسبة.. تقول الأرقام إن عدد قتلى حماس لم يتعد 131 مقاتلًا.. فقط، من بين أكثر من 15 ألف بريء فلسطينى دفنتهم الدانات تحت الأنقاض خلال حوالى 50 يومًا. 

المعنى قد يبدو واضحًا، فى اختلاط معادلات الأزمة على من يراها.. وعلى من يتابع تفاصيلها، وعلى من يقرأ أرقام الضحايا والشهداء. 

تعمل مصر على إقرار الهدنة، واستمرارها فترة أخرى . إقرار تلك الهدنة ممكن أن يكون بداية لاستمرارها، والدخول إلى مرحلة ما بعد الأزمة. ومرحلة بعد ما حدث فى غزة، ومرحلة لململة بواقى الوضع، والدخول بها إلى قضية أوسع وأكبر.. وأشمل.. وهى الدولة الفلسطينية. 

دعا رئيس الدولة المصرية عبد الفتاح السيسى إلى اعتراف أممى بالدولة الفلسطينية، بتصورات رسمتها مصر عن تلك الدولة. 

هذه هى الرؤية الأوضح لبدايات الحل. وهى المرة الأولى التى يتحدث فيها رئيس الدولة عن تفصيلات بشأن ملامح مقترحة لتلك الدولة . 

ليس من المتوقع أن يضيع العالم تلك الفرصة، كما أن لدى مصر ثوابت لا تتغير، فإن لديها رؤية على الآخرين أن ينتهزوا فرصة مهيأة للاستفادة منها. 

أهمية طرح رئيس الدولة المصرية لاعتراف أممى بالدولة الفلسطينية، وتفاصيل ما يتعلق بأنه مقبول بأن تكون تلك الدولة «منزوعة السلاح» أمل جديد لاستدامة حل مسألة معقدة، ووضع على المحك حتى الآن، لا يحتمل بدائل مختلفة، ولا يمكن أن تنهيه المعادلات الصفرية. 

أهمية الطرح المصرى، أنه يرسم الوضع ما بعد الأزمة، وفق خطوط للقاهرة رؤاها فيها، ويدفع أولًا فى اتجاه الحد من مزيد من الضحايا على الأرض من الأبرياء، إضافة إلى دفعه لتجاوز الحروب المتكررة بين الجانبين. 

تسعى مصر بقوة إلى البناء على ما تحقق بعد إقرار اتفاق الهدنة والتفكير فى المرحلة التالية . 

الجهود المصرية تعمل فى اتجاه استمرار الهدنة بكل ما أوتيت القاهرة من قوة. وقوة القاهرة فى المسألة حاكمة، لكن هذا لا ينفى أن هناك أطرافًا إقليمية تعمل على أخطاء لإعادة تفجير الوضع أو عادة نسف ما فرشته القاهرة من سجاد على الأرض كى تسير الأمور نحو التهدئة. 

 تطرح مصر رؤاها وعلى الجميع أن يقرر. منحت الشواهد ومنح الزمن مصر قوة إقرار مقاربات مختلفة . تمتلك القاهرة المفاتيح، اعتاد العالم على أن يرى القاهرة تبدأ الأزمات بمثل ما تنهى به نفس الأزمات من آراء. 

السياسة المصرية مضمونة، وبقى أن تكون الأطراف الدولية والأطراف الفاعلة الأخرى على مستوى المسئولية، ليس فقط فى التفكير وبلورة أفكار فاعلة لاحتواء العنف بشكل مؤقت، ولكن للتفكير فى تهدئة مستدامة للصراع . 

(3)

قبل 15 أكتوبر الماضى كان العالم يتكلم باللغة الإسرائيلية . 

أمريكا وأوروبا.. وحتى دول أخرى لم يكن من المرجح أن تكون آراؤها على هذا المنوال.. بعض العرب نفسهم كانوا يتحدثون أكثر مما يأكلون . 

بعد 15 أكتوبر بدأ العالم يتكلم مصرى . 

غيرت الولايات المتحدة نبرتها، وأكد الرئيس بايدن لرئيس الدولة المصرية أن واشنطن لن تسمح بالتهجير.  غيرت دول فى أوروبا نغمتها هى الأخرى، بينما زاد الوضع الإسرائيلى فى الداخل سوءًا، وانطلقت التظاهرات فى المدن الأمريكية تقول إن تأييد بايدن لوحشية إسرائيل لم يكن مبررًا. 

فى الداخل الإسرائيلى تنامت التساؤلات: ماذا فعل نتنياهو فى معادلة الأمن؟ ماذا فعل الجيش الإسرائيلى فى مسألة حماية شعبه ؟ ثم ماذا فعل نتنياهو فى تدابير استعادة المختطفين من حماس ؟ 

فى إسرائيل يتساءلون: إذا كان نتنياهو قد بدأ الحرب لاستعادة الرهائن والقضاء على حماس، فكيف يعود ويفاوض حماس على أن يعود الأسرى؟ 

عاد العالم إلى الرؤية المصرية. دولة فلسطينية الآن، قبل غد. أو أنه لا بديل عن الانتقال إلى الدولة الفلسطينية، مع إقرار ضمانات دول كبرى لوضع آمن مستدام يتم وفق رؤية القاهرة . 

لدى مصر خيارات مختلفة . تبدأ من أن أهمية استثمار فترة الهدنة لتوفير المناخ للتفكير فى حلول سياسية، وانتهاء بانتهاز فرصة ما يمكن أن يتحقق على الأرض الآن.. وفقًا للمجازر .. واعتمادًا على تفصيل مجموعة من الممكنات. 

تسعى الأجهزة المعنية فى القاهرة للبناء على ما تحقق والذهاب نحو وقف مستدام لإطلاق النار، مع استمرار إنفاذ المساعدات الإنسانية لقطاع غزة . 

ترتيب وضع ما بعد الأزمة يستدعى حلولًا واقعية. تبقى الحلول الواقعية دائمًا هى ما يمكن تحقيقه على الأرض. تبقى الحلول الواقعية مستقاة من الممكنات الآن . 

شنت إسرائيل حرب غزة، وفى ذهنية قياداتها تغيير الخرائط . صلابة الموقف المصرى، أدى إلى تغيير معادلات تل أبيب، ونحا بالأزمة نحو ثابت مصرى مؤكد أنه لا تهجير.. ولا سماح بالتهجير، مع رؤى أخرى تتعلق بإعادة ترتيب الوضع على الأرض . 

يبقى على الجانب الفلسطينى «هوم وورك».. ويبقى على الدول الكبرى التزامات بضمانات ونيات سياسية خالصة لإعادة ترتيب الأوضاع. تبدو مسألة توحيد الفصائل الفلسطينية فرض عين على كل فصيل وكل عضو فى كل فصيل.

 قطعت مصر شوطًا كبيرًا فى الطريق لتلك الوحدة .. لكن تبقى خيوط أخيرة بعضها فى يد الأطراف المختلفة .