السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
لا تشغل نفسك بالتاريخ.. وقل ما تؤمن به بصدق!

نصيحة العمر من صلاح حافظ:

لا تشغل نفسك بالتاريخ.. وقل ما تؤمن به بصدق!

لم ينس أبدًا الأستاذ «صلاح حافظ» مايسترو الصحافة المصرية ذكريات شبابه مع النجم اللامع «إحسان عبدالقدوس» بعد فترة قصيرة من توليه رئاسة تحرير مجلة روزاليوسف وكان صلاح وقتها طالبًا بكلية الطب.



ويحكى قائلًا: أذكر أننى فى تلك الأيام زرته مع زميل لى فى كلية الطب لكى نعبر له عن إعجابنا بتلك القصص التى يكتبها كل أسبوع فى باب «قصة قصيرة جدًا» يكتب فيه قصة أدبية خاطفة ورائعة.

لكنه انزعج بمجرد أن جاءت سيرتها وسأل بقلق حقيقى: هى بايخة؟

وفيما بعد عندما عملت معه فى روزاليوسف كان يسألنى كل أسبوع عن رأيى فى الحلقة التى نشرها من روايته، وعندما اعتذرت ذات مرة بأننى لم أقرأها أمسك بسماعة التليفون وأصدر أمرًا إلى إدارة الحسابات بأن تصرف لى أسبوعيًا مبلغ قرشين لكى أشترى المجلة وأقرأ القصة!

وأذكر أننى بعد أقل من شهرين من العمل معه وأثناء حوار جاد معه قلت: باعتبارى صحفيًا فإننى أرى أن ال…

فإذا به ينسى موضوع الحوار ويقاطعنى محتجًا: لا تقل إنك صحفى!

قلت: لكننى صحفى! قال لا بل أنت كاتب وأنا كاتب ويجب أن نلتزم بهذا اللقب!

قلت: وهل الصحافة عيب؟ قال: لا ولكنها ليست مهنتنا!

 

 

 

كان أول عمل قام به صلاح حافظ فى روزاليوسف هو صياغة تحقيق قصير وهو ما نال إعجاب إحسان عبدالقدوس فقام بتكليفه بكتابة أخبار المجتمع الراقى فى مصر، ودعاه إلى مكتبه ليعرفه بصديقين له سيمدانه بكل أخبار المجتمع ليعيد صياغتها وكتابتها، ويقول صلاح حافظ:

 

كان أحد الصديقين أشبه بالكمبيوتر لا ينسى شيئًا رآه، كان يضع أمامى على المكتب أوراقًا تملأ مجلدات وكلها أخبار صحفية وكلها مفصلة فلانه ذهبت إلى سباق الخيل وكان معها فلان وعلان.. وكانت تلبس ثوبًا أبيض وعقدًا أزرق وحلقًا على هيئة الهلال!، وكان حذاؤها فضيًا وكعبه على ارتفاع بوصتين، وكان شعرها مضمومًا إلى الوراء، وكان زوجها يلبس بدلة زرقاء، وفى جيبه منديل أصفر، وعندما فشل الحصان الذى راهنت عليه غضبت بينما ابتهج فلان بك، الذى سبق أن فسخت خطوبتها له والذى كان يلبس حذاءً أبيض وبنطلونًا أصفر ومعه خطيبته الجديدة بنت فلان الفلانى فى ثوب أزرق ذى خيوط ذهبية، وعقد من اللؤلؤ أهداه لها والدها فى عيد ميلادها وفيه 36 حبة منها خمس حبات سوداء والباقى من اللؤلؤ الأبيض المائل إلى الزرقة.

 

كان هذا المصدر الصديق أعجوبة وكان يزودنى بكل هذه الثروة الإخبارية مجانًا ولسببين: الأول أنه صديق لإحسان والثانى أنه يحب فى ذلك المجتمع أشخاصًا يريد أن يجاملهم، وقد تفاهمت معه على تلبية هذه الرغبة مجانًا فى مقابل خدماته، وكان هذا المصدر نقى القلب إلى حد لا يصدق ولم يكن يكترث بما يجرى فى مصر خارج إطار الحياة الاجتماعية التى هو متفرغ لها.

 

وكان يكتب لى أخباره بلغة لا شأن لها بالعربية وقواعدها ونحوها وهجائها لكننى تدربت على فهم ما يقصد من معانٍ، وتفاهمت معه على رمز يكتبه حين يريد منى أن أجامل أحدًا من الذين يتحدث عنهم فى أخباره وكان الرمز كلمة «دوس» يقول مثلًا: ثم ظهرت فى الحفل فلانة «دوس» وكانت تلبس كذا وكذا.. فأفهم إنه يريد وضعها فى الخبر بصورة جذابة، وألبى هذه الرغبة دون تردد مكافأة على الثروة الإخبارية التى يزودنى بها دون مقابل.

 

ولأننى كنت فلاحًا فإن صياغتى لهذه الأخبار الواردة من عالم لا أعرفه ولا أفهمه كانت بالطبع صياغة رجل مندهش بما يسمع، وكانت هذه الأخبار بالنسبة لى كنزًا من الأعاجيب يسمح لى بممارسة رياضتى الأسلوبية المفضلة، رياضة العزف على المفارقات.

 

وأصبح باب المجتمع فى «روزاليوسف» حديث الناس دون أن أقصد ودون أن أنتبه، أصبحت نوادى السادة فى مصر تتلقفه وتتوقعه وتتوجس مما ينشر فيه أسبوعًا بعد أسبوع، وأصبح فقراء القراء يتابعونه ويقرأونه لبعضهم البعض، بشهية الذى يطل من ثقب الباب على عالم غير مسموح له بأن يدخله من الباب!

 

وكانت مصر وقتها حبلى بالثورة وكانت المسافة بين حياة الأثرياء وحياة الفقراء قد بلغت أقصى اتساعها، ولم يعد ممكنًا أن تغيرها غير ثورة شاملة!

 

 

 

وعندما نشبت الثورة فعلاً فى 23 يوليو 1952 قيل إن مما ساهم فى نشوبها ومهد الأرض لاندلاعها حملة «إحسان عبدالقدوس» على الأسلحة الفاسدة التى هزمت الجيش فى حرب فلسطين وباب المجتمع الذى كانت تنشره فى الوقت نفسه «روزاليوسف».

 

وفيما بعد قال «إحسان عبدالقدوس» إنه تعمد أن يعهد بباب المجتمع هذا إلى كاتب يسارى لكى يحيله إلى باب يحرض على الثورة! وقد يكون هذا بالفعل هو ما قصد إليه إحسان عندما كلفنى بصياغة هذا الباب!

 

أما أنا فأقسم بالله العظيم أننى لم أكن أقصد شيئًا ولا خطر ببالى أن أستثمر هذا الباب لهدف محدد! كنت ثائرًا نعم، ولكن بالمنشورات وبالمطابع السرية وبالخلايا والاجتماعات والمظاهرات!

 

أما باب المجتمع، فلم يخطر ببالى أن أستثمره لصالح الثورة، إنما كتبته كعمل مهنى بحت، وكانت مفارقاته بالنسبة لى فرصة للأداء الصحفى الجيد، وكان هدفى وأنا أكتبه هو إتقان الأداء لا أكثر ولا أقل!

 

ويوضح الأستاذ «صلاح حافظ» ما يقصده من ذلك الاعتراف بقوله:

 

«لكن الكاتب دائما أسير معتقداته، ولأننى عدو للطبقية وخصم لجميع صور التمييز بين بنى الإنسان، فقد جاءت صياغتى لباب «المجتمع» فى «روزاليوسف» دون أن أقصد على الإطلاق صياغة تُشهِّر بالطبقية وتسخر من صورها الغامضة والفاضحة!

وقد أدهشنى كثيرًا أن ينسب لهذا الباب ولشخصى الضعيف، دور مقصود، لكن السمعة الطيبة التى فاز بها الباب والتى نسبت لى مجدًا لا أستحقه، نبهتنى إلى حقيقة كنت غافلا عنها، ولقنتنى درسًا أتمنى لو استوعبه حملة الأقلام فى مصر.

درسًا يقول لكل من يمسك بقلم، قل ببساطة ما تشعر به، تشارك دون قصد فى دفع عجلة التاريخ، لا يهم موقعك من هذه العجلة، لا يهم مستوى القضية التى أنت مشغول بها، لا يهم أن تكون زعيمًا أو رئيس تحرير أو أديبًا، أو مجرد ريشة تصحح أخطاء الآخرين، يكفى أن تؤدى مهمتك بإخلاص وحماس وأن تعبر فيها عما فى ضميرك دون زيف لكى يكون لك دور فى صياغة المستقبل!

وأوضح دليل على ذلك هو قصتى مع «روزاليوسف» وباب أين يذهب الناس؟

بالصدفة اختبرتنى فى الصياغة فنجحت لأننى بإخلاص من عشاق الأساليب وضمتنى إليها وصرت جزءًا من تاريخها، وبالصدفة عهدت لى بباب المجتمع فنجح الباب لأننى عبرت بإخلاص عن نظرتى إلى أخباره ورويتها كما يروى الفلاح أخبار بنى البندر، وشارك الباب فى دفع عجلة الثورة التى قامت لتحقيق المساواة بين جميع المواطنين.

الإخلاص كان المفتاح وقد شاءت الصدفة أن يكون ما أخلصت له هو ما صدرت من أجله «روزاليوسف»، الحق والعلم والتقدم والذوق الفنى.

وشاءت الصدفة أيضًا أن أولد يوم صدر عددها الأول وأن يكون عيد ميلادها هو عيد ميلادى وسنها هى سنى، ولكنها وهى فى نفس سنى أكبر منى بكثير لأن عمرها هو مجموع أعمار الذين التحقوا بها وتعلموا فى مدرستها والذين لقنتهم ذلك الدرس العظيم:

- «لا تشغل نفسك بالتاريخ، قل ما تؤمن به وعبر عما فى داخلك تشارك دون أن تدرى فى صنع التاريخ»! وللحكاية بقية.