الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
صلاح حافظ وقصة باب المجتمع وأولاد الذوات!

حكايات صحفية

صلاح حافظ وقصة باب المجتمع وأولاد الذوات!

«باب المجتمع» أو «أين يذهب الناس؟» أشهر وأصدق باب صحفى انفردت به روزاليوسف قبل ثورة 23 يوليو 1952، وأقام الدنيا ولم يقعدها، عندما كان يتناول أخبار وسهرات «أولاد الذوات» طبقة الرأسمالية والإقطاع!



لم يكن فى مصر كلها أو حتى الوسط الصحفى يعلم أن محرّر هذا الباب هو الكاتب الشاب وقتها وطالب الطب وعاشق الصحافة «صلاح حافظ»؛ فقد كانت الأخبار والحكايات والخفايا تنشر من دون توقيع اسمه!!

 

 

 

 

وعن هذا الباب كتب الأستاذ الكبير «إحسان عبدالقدوس» كلمة قصيرة فى «روزاليوسف» منتصف السبعينيات من القرن الماضى عندما كان ينشر بعض قصصه الطويلة، كتب يقول:

 

كان من أقوى الأبواب الصحفية فى روزاليوسف قبل الثورة هو باب المجتمع، كان مخصصًا لأخبار أولاد الذوات وأولاد العائلة المالكة، وكان يحرره أكثر الكتّاب اليساريين تطرفًا من أبناء «روزاليوسف» وهو أخى الأصغر «صلاح حافظ»، ولم يكن «صلاح» يسجل رأيه مع الأخبار التى ينشرها فى هذه الصفحات؛ بل كان فقط ينشر الخبر بأسلوب يجذب القارئ، ورغم هذا فقد كانت هذه الصفحات من أقوى المؤشرات على تجميع الرأى العام داخل الثورة!

 

وأذكر مرّة أن صلاح نشر خبرًا بريئًا يقول فيه إن ابنة «عبدالفتاح باشا يحيى»- وهو أحد رؤساء الوزارات أيامها- فوجئت بمرض كلبها وأنها حملته إلى الطبيب ودفعت خمسة وعشرين جنيهًا تكاليف علاجه، وقد نشر الخبر دون تعمُّد إبرازه، ولكنه ما كاد ينشر حتى قامت مظاهرة ضخمة من موظفى الحكومة اتجهت إلى وزارة المالية وهى تهتف تريد المساواة بكلب ابنة عبدالفتاح يحيى»!

 

وفى عيد ميلاد مجلة «روزاليوسف» الستين، وهو بالمناسبة عيد ميلاد صلاح حافظ فى نفس اليوم والسنة 25 أكتوبر سنة 1925، كتب صلاح مقالًا مدهشًا وبديعًا بعنوان «حكاية باب المجتمع» قال فيه:

«شاءت الصدفة أن التحق بروزاليوسف وقد تولاها رئيس تحرير جديد شاب يريد أن يثبت جدارته، وشاءت الصدفة أن يكون هذا الرئيس الجديد- إحسان عبدالقدوس- أديبًا يتقمص دور الصحفى ويعيد صياغة كل سطر فى المجلة لا يروق له أسلوبه، فكان أول ما طلب منّى - لكى يختبر أسلوبى - أن أعيد صياغة تحقيق قصير عن احتفال أقيم فى الإسكندرية لانتخاب ملكة جمال مصر.

 

 

 

وشاءت الصدفة أن تكون التى فازت فى هذا الاحتفال فتاة يونانية وكأن مقاييس الجمال المصرى لم تجد ما يعبر عنه غير وجه مستورد!

فلم أتردد فى أن أجعل من هذه المفارقة محور الموضوع كله، وأن أحوّل القصة من خبر إلى نكتة، ولم يكن ذلك عن قصد منّى، وإنما شاءت الصدفة أن أكون طول عمرى مولعًا بالمفارقات، وأن يتأثر أسلوبى فى الكتابة دائمًا بطبيعة الموضوع!

وقرأ «إحسان» ما كتبت وقال: كويس!

لكن الفرحة التى أشرقت على وجهه كانت أكبر بكثير من كلمة كويس وفسرتها فى ذلك الوقت - كما يقضى غرور الشباب - بأنه انبهر بى، ثم أدركت فيما بعد ودون أن يصارحنى، أنه وجد فى شخصى الضعيف بديلاً يعفيه من عبء الصياغة ويعيد كتابة مَلزمة كاملة من المجلة بأسلوب مقبول! ويحرره هو لممارسة الأدب القصّصى والأدب السياسى وحملة الأسلحة الفاسدة التى مهدت لإسقاط النظام المَلكى!

ولأن إحسان كان فى حاجة ماسّة إلى من يؤدى هذه الخدمة الجليلة له، وللأدب وللثورة، فإنه اتخذ بشأنى قرارًا بالغ الجرأة هو أن يكون راتبى خمسة عشر جنيهًا فى الشهر!

ولم يكن قد سبق فى تاريخ «روزاليوسف» أن بدأ محررًا فيها بمثل هذا الراتب الهائل، وقال لى «إحسان» بصراحة أنه لا يضمن أن توافق والدته السيدة فاطمة اليوسف على هذا الرقم!

لكنها وافقت: ولم تنسَ أن تخطرنى وهى توافق بأن أستاذ الصحافة المصرية الحديثة «محمد التابعى» كان يرأس تحرير المجلة بخمسة جنيهات!

وبعد أن صرت - ككل الذين عملوا فى روزاليوسف - واحدًا من أبناء هذه السيدة النادرة، وصرت مثلهم جميعهم فى مكانة «إحسان» فسرت لى موافقتها على تعيينى بهذا الراتب الضخم قائلة:

- أصل أنت حاتبقى كويس، بس عيبك إنك طماع!

على أن رأى هذه السيدة الجليلة كان يتغير بين وقت وآخر فيما يتعلق بطمعى أو زهدى، إنما الذى لم يتغير أبدًا، فكان رأى «إحسان عبدالقدوس» فيما يجب أن أقوم به فى المجلة.

 

كتبت قصصًا ونشرها، كتبت مقالات وأبرزها، كتبت بابًا علميًا بعنوان «انتصار الحياة» واحتفى به، توليت صياغة جميع أخبار السياسة وأخبار الفن والعلم والرياضة، لكن الأهم عنده كان الالتزام بأن أكتب كل أسبوع أخبار المجتمع الراقى فى مصر تحت عنوان «أين يذهب الناس»؟

 

أمّا تفاصيل ما حدث بالضبط بكل ما يحمله من دلالات صحفية ومهنية وكواليس تلك الأيام والشهور فيقول عنها الأستاذ «صلاح حافظ»:

 

فاطمة اليوسف - إحسان عبدالقدوس
فاطمة اليوسف - إحسان عبدالقدوس

 

وأنا رجل فلاح لم يرَ القاهرة إلا بمناسبة التحاقه بالجامعة والمناسبات الاجتماعية التى أعرفها هى حفلات الزفاف وحفلات العزاء، ولم يكن قد سبق لى - فى ذلك الوقت - أن شاهدت سباقًا للخيل أو سهرة راقصة أو مهرجانًا فى نادى الجزيرة أو نساء يرتدين مجوهرات حقيقية!

وقلت لإحسان: أنا لا أعرف هذا الجو؟

فقال ببساطة: لهذا ستجيد الكتابة عنه!

قلت: ليس عندى حتى ما يلزم من ثياب لحضور هذه المناسبات!

قال: أنا لا أطلب منك حضورها؛ بل أحذرك من حضورها!

قلت: كيف سأكتب عنها إذن؟

قال: بعد قليل سأعرفك بالمصادر التى ستزودك بالأخبار!

وقد كان.. دعانى إحسان إلى مكتبه ليقدم لى صديقين: فلان وعلان، كلاهما من أبناء الذوات وكلاهما ضابط بالقوات المسلحة وكلاهما يعيش سهرات المجتمع جميعًا ويعرف بالتفصيل ما جرى حتى السهرات التى لم يشهدها! ويعرف ما سيجرى فى السهرات القادمة، وكان أحدهما أشبه بالكمبيوتر لا ينسى شيئًا رآه!

وسيظل هذا الكمبيوتر العجيب ماثلاً فى ذاكرتى طول حياتى، فقد أحببته منذ رأيته وكان يذهلنى كلما زارنى ومعه حصيلة أخباره.

كان هذا المصدر الصديق أعجوبة وكان يمكن فى أية صحيفة عالمية أن يكون راتبه مليون جنيه فى الشهر! لكنه كان يزودنى بكل هذه الثروة الإخبارية مجانًا..

كان يضع أمامى على المكتب أوراقًا تملأ مجلدات، وكلها أخبار صحيحة وكلها مفصلة!!

وللحكاية بقية!