الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
القضية.. والسيادة.. والوعى

القضية.. والسيادة.. والوعى

لا تنجو الشعوب بالآمال وحدها. لا تنجو بالشعارات التى لا تتوافق مع الواقع، وحقائق الأمور.



لا تنجو الشعوب بقياداتها الوطنية وحدها. صحيح القيادة الوطنية عامل ضبط، لكن يبقى وعى الشعوب. 

الوعى قضية عصر. والوعى أيضًا مشكلة عصر. 

يبدأ الوعى من المعرفة الدقيقة لمستجدات الواقع، وحقائق التاريخ، قبل ضوابط الجغرافيا. 

يبدأ الوعى بالنظر إلى الخرائط، وإدراك ما وراء خطوطها، وصولاً إلى ما يدور فى الكواليس وفى الغرف المغلقة حول مضامين الخرائط وخطوطها.. وحدودها. 

لا تنجو الشعوب بلا وعى.. هذا أساس.

فالوعى اختبار للواقع، وتحليل مضامين الأحداث، ثم استقراء ما يجب أن يستقر عليه الأمر من حتميات.

تبدأ أولى درجات الوعى الوطنى من محددات الأمن القومى. لذلك فالوعى معادلات تنزل الأرض مستهدفة بمحاولات خلخلة وتفكيك فى الأزمات والملمات الكبرى. 

يترتب على تفكيك الوعى الوطنى كوارث.. وآثام. 

فى حروب استهداف الوعى، تختلط المعاملات. تعمل حروب الوعى على خلخلة المفاهيم، وإدخالها فى بعضها، أو خلطها، أو مزجها بلا مقتضى ولا رابط. 

تستهدف حروب الوعى، تغيير الأفكار، وتغيير المعتقدات الجمعية، قبل محاولة تغيير الخرائط، وقبل أى محاولة للعبث بالتاريخ. 

لذلك فالوعى هو منجاة الشعوب. ولذلك أيضًا تظل حروب الوعى دائرة لا تتوقف.. فى عصر تحولت فيه الحرب إلى قذائف على مواقع التواصل وشائعات موجهة.. وحججٍ ثعبانية مغلفة بأوراق مفضضة.. خادعة.. بديل لحروب الدبابات والراجمات.

(1) 

نظرة على خريطة الشرق الأوسط.. تكفى. 

مصر حباها الله بالستر. هى شوفينية مبررة. ففى إطار ما تفرضه حروب الوعى تبقى الشوفينية أملًا وحيدًا.. ولها ما يبررها وما يدفع إليها.. فى كثير من الأحيان والأحوال.. والوقائع.

مرة أخرى.. نظرة على الخريطة المصرية.. تكفى. 

تضفى الخرائط ملمحًا مبسطاً، عن غرب مشتعل، وجنوب مشتعل.. وعن شرق اشتعل فى لحظات، حيث هناك من خلط بين المقاومة وبين المغامرة. 

مرة ثانية وثالثة ورابعة.. لا تنجو الشعوب بالمغامرات. لا تتحصل الشعوب على حقوقها المشروعة بوسائل ملغمة، ينقطع معها الحوار، وتندلع بها بواعث انتقامية، ونيران كثيفة من كل الجوانب، بينما يقع فى المنتصف متحملًا النتائج.. مدنيون أبرياء.. ونساء وشيوخ. 

حملت مصر على عاتقها القضية الفلسطينية.. منذ بدأت. 

اذكر عندك فى الكتاب مؤتمر «مينا هاوس»، حين دعت مصر بعزيمة لا تلين إلى حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة.. على أساس المرجعيات الدولية وقواعد القانون وقرارات الأمم المتحدة.. لكن غابت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية. 

خاضت مصر حربًا ضروسًا نيابة عن العرب فى 73.. وفى كامب ديفيد كانت القضية الفلسطينية أولوية مصرية.. كما من وقتها حتى الآن. 

مرت المسألة الفلسطينية بأزمنة، جرت فى نهرها مياه كثيرة.. ربما تغيرت لدى بعضهم أفكار، وربما غيرت لدى بعضهم ظروف. لكن ظلت الثوابت المصرية واضحة.. من مدريد إلى أوسلو.. من كامب ديفيد إلى واى بلانتيشن. 

لم تفرط مصر فى حق، ولا غابت أو حادت عن أساس. 

منذ تولى عبدالفتاح السيسى مسئولية البلاد فى ظروف شديدة التعقيد، ظلت القضية الفلسطينية على رأس أولويات الدولة المصرية. 

كانت القاهرة، وما زالت هى ملجأ العالم مع كل تصاعد للوضع فى الأراضى المحتلة، وظلت القاهرة هى الملجأ حتى للفرقاء الفلسطينيين فى الداخل، حيث الآراء بينهم كثيرًا ما تتنازع.. على شكل الحلول.. وإمكانياتها.. ومنطلقاتها. 

 

 

 

(2)

تعرضت مصر للكثير فيما ظلت رافعة رايات الصبر، منطلقة من قدرتها كدولة ذات سيادة على تقديم كل ما فى اليد لصالح حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة. 

فيما كانت مصر واقفة ضامنًا أساسيًا لحقوق فلسطينية مشروعة، كانت تدار فى الخفاء خطط شيطانية، تعمل على تسوية للقضية من خلال فناء خلفى.. فى سيناء. 

الفكرة شيطانية.. استمرت، ودفع بعضهم فى اتجاه تحقيقها فى محطات تاريخية على منحنى الزمن.. أكثر من مرة. 

فى 2008 تعرضت الإدارة المصرية لهجوم «شعبوى» تماشيًا مع أفكار ماكرة، لعبت على وتر «تخفيف الضغط» على الشعب الفلسطينى الأعزل. 

بدأت الأزمة وقتها، بمغامرة شبيهة، أطلقت فيها نيران، ردت عليها نيران أقوى وأشد.. دكت غزة، واستحالت فوقها الحياة، بينما كان هناك من يزيد الأمور اشتعالًا من تحت الأرض.

تكبد الأبرياء الفلسطينيون نتائج ردود الأفعال الغاشمة، التى زادت فيها نار الانتقام رغبات الحرق والهدم على رؤوس العزل والنساء والأطفال. 

فى المغامرات، عادة ما يتكبد الأبرياء المعاناة من نتائج تصل فى أحيان كثيرة إلى فقدان كل مقومات الحياة فوق الأرض. بينما يظل تحت الأرض من يجهز لمزيد من القنابل.. ومزيد من الشعارات. 

مصر قالت كلمتها في حفل تخريج طلبة الكليات العسكرية الأسبوع الماضى. لا حلول للقضية الفلسطينية إلا وفق الخرائط المعروفة، وقواعد الجغرافيا والتاريخ. 

مصر قالت كلمتها، فى وجوب الاستمرار الفلسطينى على الأراضى الفلسطينية، ووفقًا لمقتضيات الوعى بأن كل ما يدفع فى اتجاه تفريغ القضية من عناصرها الأساسية.. غير مقبول.

السيادة المصرية خط أحمر، تمامًا كما أن أى محاولة للالتفاف على حقوق الشعب الفلسطينى، وتجريده من أرضه، أو تصديره.. خطوط حمراء هى الأخرى. 

أجهضت مصر فى 30 يونيو ما سمى وقتها بصفقة القرن، حيث تصفية القضية وتغيير معالمها ومعالم الأرض ومعالم الشعب من الأساس. 

 قبل 30 يونيو 2013 كان إتمام الصفقة على وشك. من مصر، كان إخوان الإرهاب يتمايلون ترسًا فى ماكينة تدفع فى اتجاه الصفقة بأغلفة براقة من حجج وحكايات. 

تظهر هنا فضيلة الوعى، إذ أن الصفقة إياها التى عادت للأدراج بعد 30 يونيو، سرعان ما عادت من جديد فى الظروف المناسبة، ووفق الأحداث الجارية، لتفتح لها الأدراج من جديد.. لتسعى.. وتتلوى.. وتغير جلدها.. على أبواب العثرات. 

(3) 

من الكلية الحربية الأسبوع الماضى.. قال رئيس الدولة كلمة مصر. 

لا بديل عن حل القضية الفلسطينية، وفق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، كما أنه لا بديل عن الأرض الفلسطينية.. للشعب الفلسطينى.

تبقى مصر شديدة الإدراك لما يدور.. وعالية الفطنة بما يدور. لن تقبل أن تكون طرفًا فى تفريغ القضية من الأرض التى هى محتواها الأصلى. 

تملك مصر أدواتها على الأرض، بينما يبقى الوعى الجمعى للشعوب طرفًا آخر فى المعادلة. 

الوعى مهارة.. لذلك ففى الأزمات تتعرض الشعوب لمحاولات تدليس على الواقع، فيما يشبه التنويم المغناطيسى الاجتماعى. 

فى 2008 تعرض المصريون إلى محاولة تنويم من هذه النوعية، انطلاقًا من المسئولية التاريخية لمصر عن القضية الفلسطينية. 

فى ذلك الوقت، استطاع بعضهم محاولة إحداث التماهى بين السيادة الوطنية المصرية، وبين حقوق الشعب الفلسطينى. 

وقتها كانت أديرت واحدة من أشهر محاولات التدليس على الواقع، بتبديل المقتضيات، ومحاولة الإيهام بما صدر وقتها على أنها قد تكون حلولًا نهائية. 

قى 2011 تعرضنا لأكبر محاولة تدليس اجتماعى من نوعها، إضافة إلى ما يمكن تسميته بتنويم مغناطيسى جمعى، بدّل الحقائق، وحاول إحداث الخلط الشديد بين ما تستوجبه السيادة الوطنية، وبين ما تحتاجه الحريات الفردية. 

وخلط بين ما يفترض فهمه من مقتضيات الدولة.. وبين ما يفترض الحصول عليه من حقوق مواطن.. سعيًا للأفضل.. وتطلعًا للمستقبل. 

فى الأحداث الأخيرة فى فلسطين المحتلة، عاد من يحاول تكرار اللعب على وتر الحمية والقومية، دعمًا للشعب الفلسطينى واضعًا سمًّا فى عسل. 

لكن مصر قالت الكلمة الفصل.

 مرة أخرى تملك مصر أدواتها على الأرض. تعرف القاهرة جيدًا كيف تدار الأمور، حفاظًا على أرض.. وعلى شعب تبقى قضيته الأساسية هى الأرض.

لكن فيما تعمل مصر، تعمل أيضًا فى المقابل دوائر تزييف الوعى، لكن لاحظ أن محاولات تزييف الوعى لا تنجح إلا بالنجاح فى تزييف الإدراك . 

 غياب النظرة الموضوعية هو بداية تزييف الإدراك. 

 ربما لذلك يسقط من الميزان بعض مثقفين، وبعض مما يحسبون على النخبة. 

فى هكذا أحداث، تجد من بعضهم ترويجًا لمعلومات مضللة، تدخل ضمن مخططات تزييف الإدراك الجمعى تدليسًا على الواقع. 

لكن كما تظل السيادة الوطنية هى القول الفصل، تظل القضية الفلسطينية على رأس أولويات ثوابت السياسة المصرية.

تدرك مصر جيدًا ماذا يدور؟ وكيف يدور؟ وعلى أى نحو يجرى؟.. ويبقى وعى الشارع ضابطًا.