الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أنيس منصور سنة أولى صحافة!

حكايات صحفية

أنيس منصور سنة أولى صحافة!

لم تكن الصحافة أو الانشغال بها كوظيفة من أحلام الأستاذ الكبير «أنيس منصور» ولم يخطر على باله أنه سيكون من أشهر وأكبر الصحفيين المصريين، بل وألمع رؤساء التحرير أيضًا!!



لم يحلم أنيس منصور أن يكون أستاذًا جامعيًا.. هكذا تنبأ له د.لويس عوض ود.طه حسين. ود.شوقى ضيف، لكن الحلم تبدد وضاع مع الأيام!! ولم يندم على ذلك!

وقصة أنيس منصور مع الصحافة مدهشة وممتعة ومبهرة، روى بعض تفاصيلها فى مرات عديدة، اخترت منها ما ذكره فى كتابه المبهر «شارع التنهدات» (سنة 1998) حيث يتذكر قائلًا:

«عندما صدر العدد الأول من «أخبار اليوم» - نوفمبر 1944 - كنت طالبًا غارقًا فى الفلسفة لا أدرى بأى شيء حولى فى مصر أو فى الدنيا ولا أعرف من كُتاب مصر إلا عددًا قليلًا جدًا هم «العقاد» و«طه حسين» وعددًا كبيرًا من الكتاب والشعراء القدامى، والأسماء التى تملأ حياتى هم أساتذتى: عبدالرحمن بدوى ومصطفى عبدالرازق ولطفى السيد، وعددًا كبيرًا جدًا من الفلاسفة المعاصرين والقدماء!

 

 

 

أما الذى يشغلنى ليلًا ونهارًا، فهو كيف خلق الله العالم؟ من ماء من طين؟ من نار؟ وكيف كان الإنسان الأول؟ وكيف الموت والحياة بعد ذلك، ونأكل سندويتشات الفول ونعيد تركيب الكون من أوله لآخره ومعلوماتنا قليلة وخيالنا كبير وطموحنا مشوش!

ولا أذكر أننى قلبت فى العدد الأول من أخبار اليوم، وإنما رأيت الصحفة الأولى بشكلها الفظيع.. العناوين كبيرة وبالألوان وكل موضوع له عنوان كبير.. وسمعت عن «أخبار اليوم» وعن مصطفى أمين وعلى أمين.. كلام عام وحكايات سريعة، وبمرور الوقت اتخذ مصطفى وعلى أمين شكل العمالقة.. أو سكان الكواكب الأخرى.. بس! وانصرفت إلى عملى وفكرى ودنياي!  

ويمضى الأستاذ أنيس منصور قائلًا: فلم تكن من أحلامى أن أكون صحفيًا، ولا أعرف معنى صحفى، وكل ما هنالك أننى أريد أن أكتب أو أبدأ فقط بصناعة الكلام.. فقد كان أبى شاعرًا متصوفًا وقد حفظت عنه شعرًا كثيرًا.. كما أننى أكملت حفظ القرآن الكريم فى التاسعة من عمرى، فلابد إذن أن تكون لى علاقة بصناعة الكلام الجميل.. فقد حفظت فى سن صغيرة أعظم كلام وأجمل شعر.. ولكن كيف أكون كاتبًا لا أعرف! وما الفرق بين الكاتب والصحفى لا أعرف!

وتغيرت آمالى عندما تفوقت فى الفلسفة وكنت الأول فى مسابقة الفلسفة فى الثانوية العامة وعندما كنت طالب الامتياز الوحيد فى قسم الفلسفة! وفى اللحظة التى سألنى أبى: هل جاء ترتيبك الأول؟ هل حصلت على مرتبة الشرف الأولى؟ فقلت: نعم.. فمات أبى وكان لابد أن أعمل، وذهبت إلى أستاذى د.شوقى ضيف وهو أول من تنبأ لى بأنني سيكون لى شأن فى صناعة الكتابة، وهى حادثة مشهورة ذكرها بعد ذلك كثيرًا، فكان يدرس لنا الشاعر «أبا تمام» وطلب منا بحثًا عنه وكتبت بحثًا فلسفيًا عنوانه «الذاتية والموضوعية فى شعر أبى تمام» وقدمت البحث ونسيت أن أكتب اسمى، فجاء «د.شوقى ضيف» فى اليوم التالى يسأل عن صاحب البحث فرفعت يدى فقال: أحسن بحث وسوف يكون لك مستقبل عظيم فى صناعة الأدب والنقد الأدبى والفلسفة.. اقرأ بحثك على زملائك!

وجاء ترتيبى الأول فى الليسانس مع مرتبة الشرف الأولى وأسعده ذلك، فقد صدقت نبوءته ولكنه لم يتنبأ لى أبدًا أن أعمل فى الصحافة أو فى الصحافة الأدبية، ولكن إصرارى ألا أعمل فى الجامعة هو الذى اضطره إلى أن يجد لى سبيلًا إلى الصحافة!

وقال لى أستاذى «د.شوقى ضيف»: ما رأيك فى جريدة «الأساس» هل تعرفها؟! قلت: لا!

قال: أنا من رأيى أن تقابل د.عبدالوهاب عزام فهو على صلة جيدة بالنقراشى باشا رئيس الوزراء وصاحب هذه الجريدة وفيها مجال لكتابة القصص والنقد ما دامت هذه رغبتك فى ألا تعمل فى الجامعة، وإن كان رأيى لا يزال أن الجامعة هى مكانك الطبيعى، والجريدة موجودة فى شارع الشواربى، اذهب!

 

 

 

وذهب أنيس منصور لتبدأ أخطر مرحلة فى حياته ويروى قائلًا:

ذهبت ورأيت مبنى الصحيفة فى شارع الشواربى، وفى الصحيفة وجدت أحد زملائى فى دراسة الفلسفة وكان يعمل هناك، لم أسأل ما الذى يعمله هو الذى سألنى ظنًا منه أننى أعرف طبيعة العمل:

- هل عندك قصة قصيرة أو قصة مترجمة يمكن نشرها هنا؟!

وعدت إلى البيت وكتبت قصة طويلة اسمها «سوزى» ولم أعرف فى حياتى واحدة بهذا الاسم! ولا سمعت هذا الاسم!، ولكن هذا ما خطر على بالى، لابد أننى نقلت الاسم من الروايات الأجنبية، وقالوا فى جريدة الأساس اذهب بها إلى الأستاذ «موسى صبرى» فهو المسئول عن الصفحة الأخيرة!

وذهبت إلى «موسى صبرى» وابتسم.. ووضعها أمامه بما معناه اتركها!

وتركتها ونزلت السلم الطويل، فالجريدة تشغل الدور الأول والدور الثالث، وبعد أيام رأيت القصة قد احتلت الصفحة الأخيرة كلها، عنوانها بالخط الأحمر، واسمى فى آخر الصفحة بخط صغير جدًا ولكنه اسمي! نشرت القصة ثم ماذا بعد ذلك؟!

لا فرحت بنشرها ولا قلت لأحد عنها، ولا قال لى أحد أنه رآها أو قرأها، إذن نشرت القصة فما الذى يمكن عمله بعد ذلك؟ وهل هذه هى البداية؟! بداية ماذا؟

وبعد أيام عدت ومعى قصائد من الشعر الألمانى ترجمتها إلى العربية وسألنى موسى صبرى: من ترجمتك؟! قلت: نعم!

وأخذها وجاءت ابتسامته بما معناه: اترك القصائد هنا وانتظر حتى ننشرها فى الصفحة الأخيرة! ووجدتها بعد أيام.. لا فرحت ولا أسعدنى أحد بأنه قرأها أو رآها أو اتخذ منها دليلًا على أننى بدأت وأننى خطوت وأن طريقى هو الأدب أكتبه أو أترجمه! ولم أعرف من أى أحد إن كان هذا عملًا صحفيًا أو أننى قد بدأت أشتغل بالصحافة؟ وهل نشر قصة أو قصيدة هى البداية؟ وهل سوف أستطيع ذلك من حين إلى حين؟ أو ما الذى يمكن عمله؟ أو يصح عمله؟!

 

 

 

حتى فى «صالون العقاد» لم يلاحظ أحد من الحاضرين أننى فعلت شيئًا ولا قلت لأحد!!

واقترح أحد الأصدقاء أن أطلب مكافأة عن القصص العشر التى نشرتها واندهشت، فلم أكن أتصور أننى أستحق الأجر عن ذلك! وإنما الجريدة هى التى تستحق الشكر على أنها نشرت!

وللحكاية بقية!