الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
د.جمال حمدان الشخصية والعبقرية النادرة!

حكايات صحفية

د.جمال حمدان الشخصية والعبقرية النادرة!

فى صمت يدعو للدهشة والعجب مرت ذكرى ثلاثين عامًا على وفاة د.جمال حمدان المأساوية (أبريل 1993).



وكان د.جمال حمدان قد اعتزل الناس والحياة تماماً قبل وفاته الغامضة، ولم يسمح لأى صحفى أو كاتب بمقابلته إلا فى مرات نادرة وكان أقرب الصحفيين إليه هو الأستاذ «مصطفى نبيل» رئيس تحرير مجلة الهلال.

لقد كتب «مصطفى نبيل» فى الذكرى الثانية لرحيل د.جمال حمدان  مقالاً فى غاية الأهمية فى مجلة الهلال التى يرأس تحريرها بعنوان «جمال حمدان» المأسأة والعبقرية.. استغرق ثمانى صفحات من المجلة الصادرة فى أبريل سنة 1995.

 

أهمية المقال أنه يكشف عن جوانب مهمة ومثيرة فى حياة الرجل، حيث كتب مصطفى نبيل بدايات تعرفه على د.حمدان قائلًا:

 

 

 

لفتت كتاباته انتباهى منذ وقت مبكر وسعيت للتعرف عليه فى الستينيات (القرن الماضى) وأخذت أتردد عليه فى بيته المتواضع بالدقى فى 25 شارع أمين الرافعى، والذى كان يعيش فيه وحيدًا وكأنه فى محراب للعلم، ووجدته من خلال ترددى عليه قارئاً نهمًا، لا يكتفى بكتبه ومراجعه، ولكنه لا يترك صحيفة أو مجلة أو دورية إلا ويتابعها، ولم أصادف مثيلًا له فى متابعته الدقيقة لكل ما ينشر، وله رأى محدد فى كل من يمسك القلم، وكان لا يبخل عليّ بملاحظاته التفصيلية القيمة حول ما أكتب، وبقدر إعجابه بتحقيق عن اليابان، وآخر عن شمال العراق كان يأخذ على جيلنا الانغماس الشديد فى السياسة.

وأعجبنى أن قراءاته تنوعت وتعددت مجالاتها، ويهتم اهتمامًا خاصًا بالفنون، يتابع بدقة المسرح والرواية والشعر والفنون الجميلة وله رأى محدد فى كتابنا ومفكرينا، كثيرًا ما كان محل الحوار والمناقشة بيننا، ومن آرائه التى أذكرها، أنه كان شديد الإعجاب بطه حسين ولكنه لا يرى فى كتب «العقاد» سوى تجميع لمعارف سابقة، وعلى قدر إعجابه بأعمال توفيق الحكيم، كانت تستفزه هذه الأعمال سياسيًا!

ودائم الإعجاب بكتابات «يحيى حقى» وكان هناك شيء ما يجمعهما، وقد نشر أولى مقالاته فى مجلة «المجلة» عندما كان «يحيى حقى» رئيسًا لتحريرها، وقدم كتاب «القاهرة» الذى ترجمه يحيى حقى، وكان يشيد بنجيب محفوظ صاحب الثلاثية كما كان يسميه!!

ويكشف الأستاذ مصطفى نبيل.. عن جوانب مهمة ومدهشة فى حياة د.جمال حمدان.. كما عرفه عن قرب فيقول:

ولا أظن أحدًا يتصور أن هذا العالم الكبير يهوى الغناء ويجيده وأنه يتمتع بصوت فى منتهى العذوبة، وأنه يقلد أغانى «عبدالوهاب» و«فريد الأطرش» وهو مولع بأغانى «أم كلثوم»، وعلى قدر ولعه بالموسيقى الشرقية مولع بالغناء الأوبرالى، ويرى فى نفسه خطاطًا ورسامًا يصر على تصميم أغلفة كتبه، ويرسم خرائطها، ورفض بغضب اقتراحى بأن يصمم أغلفة كتبه رسام محترف!

وكان معجبًا بصلاح جاهين.. يلفت نظرى إلى أنه لا تتكرر ملامح وجوه شخصياته فى رسوماته الكثيرة واليومية وكان يترنم بأشعاره.

وكانت تربطه علاقة خاصة بأحمد بهاء الدين وكامل زهيرى!

وأذكر هنا أنه فى هذه الأثناء طلب منى الأستاذ «أحمد بهاء الدين» والذى كان يعرف علاقتى بالدكتور «جمال حمدان» أن أحمل له عرضًا من دار الهلال بأن يتعاقد كاتبًًا فى مجلات ومطبوعات الدار، وأن يكتب ما يشاء عندما يشاء! وأن ننشر أعماله فى الدار!

وفرحت بالعرض، وأسرعت به إلى الدكتور «جمال حمدان» وفاجأنى بالرفض، واعتباره أن هذا العقد قيد على حريته، مع وعد منه بأن يكتب بين وقت وآخر فى صحف الدار، وبالفعل نشر أهم كتبه فى كتاب الهلال وكتب بانتظام فى مجلة الهلال!

 

 

 

ويواصل مصطفى نبيل فى رسم صورة بالكلمات لجمال حمدان فيقول: «كان أنيقًا ومهذبًا، خجولاً، ودمث الخلق يعتد بنفسه، ويتجنب الناس وكأنه يقول مع «سارتر» إن الآخر هو الجحيم!

رفض مساعدتى لكى يدخل تليفونًا إلى بيته، شديد الإخلاص لما يؤمن به، عندما يتكلم يتكلم بكل جوارحه وبكل ملامحه، وإشارات يديه، شديد الحساسية والكبرياء!

كنت أبذل مجهودًا كبيرًا كى أتجنب غضبه، وهو زاهد فى كل ما حوله يبذل جهدًا دائمًا لقهر رغبات الجسد وإعلاء شأن الفكر والعقل، مثل الرهبان تمامًا، يتعامل بشجاعة مع القضايا الراهنة، ورغم تجنبه الناس لم يفعل كغيره ويتحصن فى برجه العاجى فيما يعالج من قضايا، وأثبت أن العلم الأكاديمى ليس بالضرورة جامدًا أو محايدًا!

كان يعتذر باستمرار عن السفر وحضور المؤتمرات، وهو رجل يفعل ما يقول، ويقول ما يؤمن به!

وكان من عاداته أنه بعد إعداد كتابه للنشر، أن يقرأه كله فى جلسة واحدة مهما طالت هذه الجلسة!  

كانت المحطة الفارقة والرئيسية فى حياة د. جمال حمدان هى عزلته واحتجابه فى بيته بعيدًا عن صخب وضوضاء ما حوله وهنا يروى الأستاذ «مصطفى نبيل» قائلاً:

لم يعتزل الناس مرة واحدة، إنما حدث ذلك على مراحل وأخذت ظاهرة العزلة تتزايد مع تطورات تمر بها البلاد وتنعكس عليه، كنت ألمحها وأشعر بخطورتها عليه وعلى صحته النفسية!

وربما كانت تجربته فى الجامعة من أهم هذه الأسباب، فكثيرًا ما انتقد الجامعة وما آلت إليه من تدهور, وأدهشه ما تشهده من مجاملة وفساد، وأخذت تتصدع الصورة التى رسمها، فها هو ذا أحد زملائه الذى حصل على الليسانس - قسم الجغرافيا بدرجة مقبول - ثم عمل رسامًا للخرائط بالقسم، وأخذ يساعد الأساتذة فى إعداد كتبهم، فيحصل على الدبلوم ثم الدكتوراه ويصبح زميلاً له ينافسه فى المجال العلمى!

ومن ناحية أخرى كان يلاحظ الأثر السلبى للسياسة على الجامعة واستقلالها وأصبح الحلم الذى يداعب خيال أستاذ الجامعة أن يشغل منصبًا سياسيًا مرموقًا، ولأسباب سياسية يتقدم عليه أحد أقرانه الذى يرى أنه أقل منه علمًا، بل الذى سبق وسطا على بعض أبحاثه!

ويرى - أى جمال حمدان - أن ما آلت إليه الجامعة يفرض على العالِم الابتعاد عنها، وهذا ما يبدو السبب المباشر لاستقالته من الجامعة وتفرغه الكامل للكتابة فى محرابه!

ويمضى الأستاذ مصطفى نبيل فى سرد مواقف سياسية كان لها تأثيرها الكبير على د. جمال حمدان خاصة حرب 1967 وحرب أكتوبر 1973 وكتابه المهم «6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية»، وما جرى بعد ذلك من توقيع اتفاقية كامب ديفيد ويقول مصطفى نبيل:وزادت عزلته، ولكنه لم يلعن الزمن ولكنه عكف على كتابة مؤلفه «شخصية مصر» والذى يخاطب فيه المستقبل ويسجل فيه الإمكانية الكبيرة لهذا الشعب وأشار إلى عناصر القوة واحتمالات التنمية. «وقدر مصر أن تتصدى وأن تتحدى فهذا هو دورها»!

ولكنه أخذ يزداد اعتكافًا وبعدًا عن الناس، ورغم ذلك استمرت صلتى به وعلاقتى الحميمة معه، واتفق معى على طريقة خاصة للقاء».

ولحكاية د. جمال حمدان بقية!