الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
صدمة الحمامصى فى قراء صحيفته!

حكايات صحفية

صدمة الحمامصى فى قراء صحيفته!

ذهب الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» حاملًا معه نموذج العدد الأول من صحيفة   «الأسبوع» التى أصدرها، وذهب إلى واحد من أباطرة توزيع الصحف لكى يعرف رأيه.



وأخذ الرجل يقلب النموذج وأبدى عدم رضاه لأن الصحيفة ينقصها الصور المثيرة التى تجذب القراء، وهو ما يتعارض مع المثالية التى يحلم بها الحمامصى!

كانت تجربة صحفية مهمة ومثيرة فى حياة الحمامصى الذى يستكمل تفاصيلها فى كتابه «من القاتل» فيقول:

 

 

ولم افأجأ بهذه النصيحة لأن الرجل كان صادقًا.. كان من عادة هؤلاء المعلمين التوجه إلى مطابع الصحف كل ليلة لإلقاء نظرتهم الفاحصة على عدد «اليوم» فإذا رأوا فى الصفحة الأولى جريمة مثيرة أو صورة جذابة أو  أو حدثًا مدويًا، بادروا إلى زيادة الكميات المطبوعة، أو أقل منها وانصرفوا ويا ويل الصحيفة التى لاتستمع إلى النصيحة أو تتجرأ أو تزيد فى الكميات المطبوعة فإن مصيرها هو أن تكون «مرتجعًا» معدًا للبيع بالوزن وعلى الباعة الجائلين لاستخدامه فى لف مبيعاتهم من البلح والعنب والبصل!!

ويعترف الحمامصى أنه بعد أن فكر فى كلام إمبراطور التوزيع فإنه استبعد تمامًا الامتثال لنصيحته ويكمل قائلًا:

أثرت التركيز - تركيز التفكير - فى هل يمكن إيجاد الحل الوسط، وكيف يكون؟! وهل يتعارض هذا الحل الوسط مع المثالية التى اتطلع إليها؟!

وبغرض الوصول إلى مثل هذا الحل الوسط فهل يمكن التحلل منه تدريجيًا، والعودة إلى تطبيق المثالية؟ وهل يتفق هذا التحايل مع الأمانة التى يجب أن نرتبط بها مع القارئ مع بداية الطريق؟!

كل هذه الهواجس والأسئلة دارت بذهن الحمامصى ويسترسل قائلا:

ولم أشأ أن أشرك معى زملائى فى هذا التفكير، ذلك أنى كنت أخشى أن يتأثروا بكلام عمالقة التوزيع وأن يدفعهم حماسهم لإصدار الصحيفة إلى الدخول معى فى تجربة اختيار «الحل الوسط» كان رأيى قد استقر على قرار واحد لا ثالث له؛ فإما أن تصدر الصحيفة بالصورة التى أراها وتواجه مصيرها بشجاعة، وإما أن أصرف النظر عن إصدارها!

شخص واحد واجهته بهذا القرار فى جلسة عائلية هادئة هو «والدى» الذى استمع إلى ما طرحته عليه من تصورات وأفكار ثم وزن بينها جميعًا وبادرنى بالسؤال المنطق؟ وماذا يضيرك إذا فشلت؟

قلت له: إنه المال الذى سيضيع!

فأجابنى فورًا: إذا ضاع المال فإنه يمكن استعادته، أما إذا ضاع المبدأ فهو الشيء الذى لا يسترد.. امض فى طريقك وتوكل على الله، وأغلق الصحيفة إذا فشلت فى الوصول بها إلى الجماهير، فأنت بهذا القرار ستتفاخر يومًا بأنك لم تستسلم!

وفى تلك الليلة قررت أن تصدر «الأسبوع» بالصورة التى اخترتها، وصدرت فعلًا فى الموعد الذى حددته، وركبت سيارتى الصغيرة فى ذلك اليوم ومعى مجموعة من الشباب الذى اشترك فى إصدارها ورحنا نجوب شوارع العاصمة، كنا أسرى لتصورات مسبقة من أن الباعة سينادون على «الأسبوع» دون سواه من الصحف المعروفة بأعلى أصواتهم، وأن الجماهير ستسارع إلى تلبية النداء والإقبال على الشراء.

كنت قد نمت فى الليلة السابقة متعبًا، ومنهكًا، ولكنى كنت مستريحًا إلى محادثة تليفونية جاءتنى من والدى، بعد أن بعثت إليه بأول نسخة أخرجتها المطبعة، إذ بادر بقوله: أهنئك يا ابنى.. هذه هى الصحيفة التى تخيلتها وأردت أن تصدرها.

كان قد قرأ كل كلمة واطمأن.. تغلبت بهذا الاطمئنان على متاعبى. ونمت بضع ساعات قمت بعدها إلى جولتى فى شوارع القاهرة.

ولكن هذه الجولة أشعرتنى بأن تحذير عملاق الصحافة كان صحيحًا، ذلك أن الباعة لم يجدوا فى الصحيفة الجديدة ما يشجعهم على النداء عليها وتنبيه القراء إلى مولدها، وقد كان لهم عذرهم فلم يكن بها ما يدفعهم إلى النداء عن الجريمة المثيرة، ولم تكن بها الصورة الجنسية التى تشجعهم على وضعها أمام أعين القراء لجذبهم إلى شراء الصحيفة.

لقد خلت من كل هذه البضاعة الرخيصة لتفسح المجال للقصة السياسية الواقعية والتحقيق الصحفى المدروس والمقالات المتعددة الموضوعات والتى ساهم بكتابتها كبار الكتاب، إما بالأجر أو بالتطوع لخدمة أهداف الصحيفة، إلا أن كل هذا فى حكم صبيان عملاق التوزيع الكبير ليست البضاعة الرائجة!

ويمضى الأستاذ الحمامصى فيصف حالته ومشاعره فى ذلك الوقت بقوله:

عدت إلى مكتبى وقد امتلأت (نفسى) بالأسف الشديد، ولكن لأجدها فى ذات الوقت تتلقى التهانى من الذين كانوا يتطلعون إلى نوعية مثالية فى الصحافة، وذلك هو الذى أزال من أمامى بعض آثار جولتى الصباحية وامتلأت بشحنة من التحدى، وليكن ما يكون، لقد قدمت ما أرضى ضميرى، وسأمضى فيه حتى يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.

 

 

 

أمر واحد اكتشفته بعد أن جاءتنى أرقام توزيع العدد الأول، ولم تكن محققة للنجاح الذى توقعته، هو أن ما وزعه «الأسبوع» فى العالم العربى يكاد يكون متساويًا مع ما وزع فى مصر.. هل ذلك بسبب أن قراء هذا العالم هم من نوعية أخرى غير القراء المصريين؟! أم أن التطور الذى دخل على المادة الصحفية فى مصر لم يكن قد وصل بعد إلى الدول العربية الأخرى؟! أم أن القراء فى غير مصر هم أكثر طلبًا للمثالية والجدية الغالبة على المادة الصحفية؟

وتمضى الأسابيع والصحيفة بكل طاقمها من الشباب تتحدى وتكافح وتفاضل، وكان «والدى» يمدنى بين الوقت والآخر بما يساعدنى على الاستمرار، ولكنى كنت أحس بأن هذا يجب أن يتوقف عند حد!

ذلك أن التمويل المتصل اعتداء على حق غيرى، حق إخوتى وأسرتى إلا أنى كنت مترددًا فى اتخاذ القرار الأخير إلى أن وقع ما فُرض على اتخاذه ونهائيًا!

كانت هيئة التحرير قد أعدت تحقيقًا صحفيًا عن سيطرة كبار تجار الفاكهة على منتجات مزارعها، وأنهم بهذه السيطرة يتحكمون فى رفع الأسعار وتناول التحقيق شبهة اشتراك بعض المسئولين مع هؤلاء التجار، ولقد أحس كبيرهم ويدعى المعلم «زيدان» من تحركات مندوبى «الأسبوع» ومساءلتهم للكثيرين عما يجرى فى سوق الفاكهة بأن أمرًا صحفيًا ما يدبر لهم، ففوجئت بزيارة يقوم بها المعلم لدار «الأسبوع» يعرض شراء الموضوع كإعلان بشرط موافقته على مضمون الموضوع.

ولم أفاجأ بهذا العرض، ذلك أن هذا الأسلوب  هو ما كان متبعًا فى بعض الصحف أن ينشر الإعلان فى صورة تحقيق صحفى دون أن يقال للقراء إن مادته «إعلانية»!

ولن ادعى أننى طردت الرجل من مكتبى، بل جلست أتحدث إليه حديثًا طويلًا أردت من ورائه الوقوف على المزيد من قدرات رأس المال على التلاعب بعقول الجماهير عن طريق ما ينشر فى الصحف، ولكن الرجل لم يشبع رغباتى، ولعله أدرك هدفى من هذا الحوار فآثر ألا يقدم لى مزيدًا من المعلومات التى أضيفها إلى تحقيق «الأسبوع»، واكتفى بالانصراف غاضبًا لأنه لم يصل إلى غايته ولم يحصل على ما أراد، وصدر العدد وبه التحقيق الذى أراد المعلم شراء مادته!

إلا أن هذه المقابلة، وصحيفتى تحارب عبثًا من أجل البقاء أسبوعًا بعد أسبوع قد أكدت لى أن رأس مالى المحدود - والذى كان ينفد أو هو قد نفد فعلا - قد دخل مرحلة السيطرة الشرعية على المشروع، وأن ما يعتمد عليه غيرى من بيع الكلمة المطبوعة بأى ثمن لم يعد صالحًا لى، ولا أنا صالح له!».

وللذكريات بقية!