السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الحمامصى يفكر فى إصدار صحيفة مثالية!

حكايات صحفية

الحمامصى يفكر فى إصدار صحيفة مثالية!

«كانت مرحلة استقلالى فى عملى الصحفى مرحلة قصيرة امتزج فيها الفرح بالحزن بالأسف، بالتخوف من المستقبل، ولم يخفف من طعم هذا المزيج المر إلا راحة الضمير فى نهاية المطاف.



لقد ذقت خلال أشهر هذه التجربة كل شىء إلا لذة النجاح، ورغم هذا فقد كانت تجربة أعتز بها وأعتبرها درسًا بالغ الأهمية، وهو درس إذا كنت قد دفعت ثمنًا باهظًا له، إلا أنه قد أكد لى حقيقة ما وهى أن التجربة يمكن أن تنجح، ولكن ليس عن طريقى فلم أكن أملك خزائن مال تدعم المواجهة والمنافسة»!

 

هكذا يعترف الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» وهو يستعرض ملامح من مشواره الصحفى فى بداية حياته وكما رواها فى كتابه «من القاتل».

 

 

 

ويمضى فى اعترافه قائلًا: كانت هناك مجموعة من الأخطاء وقعت فيها ولعل أولها أنى بدأت التفكير فى هذا المشروع مستسلمًا لعوامل كثيرة هى فى مجموعها عاطفية أكثر منها واقعية ويسيطر عليها التحدى!

وأهملت أيضًا استشارة الغير فيما أنا مقدم عليه مكتفيًا بالاستماع إلى مشورة من اتفق تفكيره مع تفكيرى، مما جعلنا نتخيل أن عملنا الصحفى الجديد قادر على اقتحام كل الصعاب، وأن الجماهير فى انتظاره، وعلى أتم استعداد لقبوله والترحيب به!

وهكذا قرر الأستاذ «الحمامصى» أن يصدر صحيفته الجديدة، هو مالكها ورئيس تحريرها أو حسب تعبيره: «آثرت اختيار حياة التحرر الصحفى، فى هذه المرحلة تصورت أن ما اختزنته فى داخلى من خبرات عن خبايا العمل الصحفى كافٍ للبدء فى الاستقلال بمشروع صحفى يتمثل فى إصدار صحيفة أسبوعية أخدم بها مهنتى، وأقدم من خلال مادتها الدليل على أن العمل الصحفى المستقل يمكن أن يكون مثاليًا بغير اعتماد على الغير.

كنت أتصور أن المثالية هى مطلب الجميع، وأننا بها سنصل إلى قلوب الجميع، وتناسيت أن المثالية هى خصم للكثيرين من زملاء المهنة وأنهم لهذا لن يترددوا فى استخدام كل ما تحت أىديهم من خبرات وتجارب فى تمزيق هذه التجربة الجديدة والحيلولة بينها وبين وجودها   وأن لا سبيل إلى تحقيق انتصار للمثالية إلا إذا كان سلاحها المالى مجددًا ومستمرًا ولو لفترة زمنية معقولة!

كان مصدر التمويل لمشروعى الكبير هو قليل من المال ادخرته من خلال عملى بجريدة الكتلة الوفدية، وأضاف إليه والدى بعض ما يملك دون أن أمد له يدى، ذلك أنه كان رجلًا مثاليًا فى تفكيره، ويرى أن العمل الصحفى الجيد سيجد من يطلبه ويقبل عليه!

ولقد كانت هذه الإضافة المالية من جانب والدى مصدر قلق لى، ذلك أنى كنت أحب التعامل فيما أملك، لأنه يمنحنى مجالًا حرًا فى التحرك بغير تفكير فيما سببته لغيرى من خسائر مالية، ولقد صارحته بهذه المخاوف، فلم أجد منه إلا إصرارًا على الوقوف إلى جانبى ودفعنى إلى الإقدام على خوض التجربة بكل ما ملك من عزم.

ويمضى الحمامصى قائلًا: وبدأت أخطط للصحيفة، ولم يكن التخطيط مرتكزًا على تحقيق ما يطلبه جماهير القراء، بل على أساس عكسى وهو: ما الذى يجب أن تقرأه الجماهير؟ وهذا هو الخطأ بعينه فى قاموس التخطيط الصحفى الحديث، فقد كان السائد فى الفكر الصحفى فى ذلك الوقت هو أن يبحث المخطط والمحرر المنفذ من بعده عما يشبع رغبات القراء، حتى ولو كانت رغبات تتعلق بالإثارة والجنس والجريمة! وعليه أن يشحن بها خريطة تخطيطه ثم يسأل نفسه بعد ذلك:هل أشبعت رغبات القراء؟ مع تعدد أمزجتهم؟! وهل من مزيد فى صورة عارية؟! أو جريمة مثيرة؟!

 

 

 

 

ولن أنكر أن قلمى - وهو يخطط لصحيفتى الجديدة - كان يقف الفترة بعد الأخرى مترددًا بين الامتثال للفكر الحديث أو الالتزام بالمثالية المسيطرة على فكرى.

كنت أسأل نفسى هل أستطيع مواجهة هذا التيار الجارف الذى سيطرت به الصحافة المصرية الحديثة على عقلية الجماهير؟! وماذا سيكون الوضع لو أن التيار كان أقوى من كل شىء؟! أسئلة كثيرة واجهتها وناقشتها مع نفسى ومع غيرى، ثم انتهى قرارى إلى أن المثالية يمكن أن تنتصر!

ويسترسل الأستاذ «الحمامصي» فى طرح تساؤلاته المهنية فيقول: هل لو أنى - فى هذه المرحلة الشخصية كنت أتعامل مع رأس مال يملكه سواى، هل كنت أصل بتفكيرى لهذه النتائج أم كان عليّ العودة إلى استشارة مصدر التمويل وطرح هذه التساؤلات عليه؟! ثم ماذا يكون الوضع لو أنه نصح باختيار الطريق الوسط أو مسايرة الحديث فى التخطيط الصحفي؟ هل أتوقف عن المضى فى تنفيذ المشروع؟

ولست أحب تسجيل إجابات لهذه التساؤلات الافتراضية فأنا لم أواجه مثل هذه التجربة إذ كان المال مالى، وبالتالى فقد كان القرار قرارى ومن هذا الواقع فقد كان تخطيطى لصحيفة «الأسبوع» - وهذا هو الاسم الذى اخترته لها - حرًا بغير حدود ولا سيطرة لرأس المال عليه.

وانتهيت من تخطيط صفحات «الأسبوع» بعد أن أخضعته للمثالية التى أومن بها، ولأن الذين اخترتهم لمشاركتى العمل كانوا يتفقون معى فى الرأى والاتجاه، فقد ظفر هذا التخطيط بموافقتهم واستعدادهم للعمل معى.

 

ثم جاءت مرحلة المواجهة مع الواقع الآخر، الواقع الذى يسيطر على سوق التوزيع ويعرف إلى حد كبير ماذا يريد القراء، وماذا لايريدون وأى الموضوعات العميقة التى تجذب القارئ.

عندما طرحت هذا التخطيط على قطب من أقطاب صناعة توزيع الصحف، ولم تكن الصحف الكبرى قد استكملت تكوينها الإدارى الحديث بتكوين شركات مستكملة الاستعداد للتوزيع الداخلى والخارجى، وإنما كانت هذه الصناعة فى أيدى أفراد قلائل أغلبهم إن لم يكن كلهم من «المعلمين الكبار» الذين يجهلون القراءة والكتابة، ومع هذا فقد كانت سيطرتهم على سوق التوزيع كاملة، ولم يكن هناك مفر من الاعتماد على أجهزتهم وسيطرتهم على الباعة وتحصيل أثمان المبيعات فى توزيع الصحف القائمة أو أى جديد يضاف إليها!

 

ولم يتردد الأستاذ - الحمامصى - فى الذهاب إلى أحد هؤلاء المعلمين الكبار أصحاب السيطرة الكاملة فى سوق الصحافة ويكمل قائلا: عرضت النموذج الأول على هذا الرجل قطب التوزيع وعملاقه، ثم أخذت أتابع تحركات وملامح وجهه وهو يقلب النموذج، فأحسست بأنها تحركات معبرة عن عدم الرضا أو عدم الاقتناع بأن البضاعة المعروضة عليه ستجد مكانًا لها فى سوقه التجارية!

ومرة بعد أخرى كان يعود إلى تقليب الصحفات ولا يتكلم وأحسست أنه متردد، كان شأنه شأن من يحاول أن يبذل جهدًا كبيرًا فى البحث عن كلام يقول دون أن يجرح شعوري!

ثم نطق أخيرًا قال: إن الصحفات ينقصها الكثير!

 

 

 

 

وسألت: مثل ماذا؟! أجاب بدون تردد: الصورة المثيرة!

وهو بالقطع كان يعنى الصورة التى تثير غرائز القراء والتى كانت من نتاج تطور صحافتنا إلى النوعية التى سميت بالحديثة!

ولعل صمتى وعدم الرد المباشر شجعه على المضى فى طرح ملاحظاته إذ قال: هل تدرى أن مثل هذه الصور فى الصفحة الأولى كافية لأن تبيع العدد؟!

ولم أفاجأ بهذه النصيحة لأن الرجل كان صادقًا، وفى ذلك اليوم جلست وحدى أفكر فيما قاله الرجل - عملاق التوزيع - وفيما يجب عليّ أن أفعله!

فماذا فعل الأستاذ جلال الحمامصى بعد هذه الصدمة؟

للحكاية بقية!