السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
جلال الحمامصى من «روزاليوسف» إلى المصرى!

حكايات صحفية

جلال الحمامصى من «روزاليوسف» إلى المصرى!

لفت انتباهى وأثار دهشتى الشديدة وأنا أقرأ كتاب الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» - من القاتل - أنه لم يذكر حرفًا واحدًا عن فترة التحاقه بمجلة «روزاليوسف» محررًا رياضيًا لفترة من الوقت!



لكن السيدة «روزاليوسف» فى كتابها «ذكريات» ذكرت اسم «جلال الدين الحمامصى» عندما كانت تتحدث عن تلامذة «روزاليوسف» فی طريق المجد وكتبت تقول:

«ومن الشباب الذين عرفوا طريقهم إلى المجلة فى ذلك الوقت أيضًا الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» وكان بدوره صديقًا لمصطفى أمين - وطالبًا فى الجامعة وكان يحرر باب الرياضة، واشتهر فى المجلة بتأنقه البالغ فى ثيابه ومظهره وعبوسه المستمر وبتحمسه الشديد للوفد أكثر من حماسة الآخرين.. وأذكر أنه حين نجح فى أحد الامتحانات أرسل برقية بذلك إلى «مصطفى النحاس» - زعيم الوفد - وأشاع أصدقاؤه أنه أرسل إليه يقول إنه نجح فى الامتحان على مبادئ الوفد، وظلت هذه النكتة تلازم جلال زمنًا طويلاً».

 

كان «جلال الدين الحمامصى» - كما يقول فى كتابه «من القاتل» - يدرس فى كلية الهندسة ويمارس الصحافة، وكانت جريدة «المصرى» هى أول بداية حقيقية له فى عالم الصحافة بفضل الأستاذ «محمود أبوالفتح» صاحب الجريدة، حيث كتب يقول:

«إذ إنه - أى محمود أبوالفتح - أوكل إلىَّ مهمة الإشراف الكامل علی تحرير صحيفة المصرى بمجرد أن تخرجت فى كلية الهندسة وأصبح وقتى كله للصحافة، مما ألقى علیّ مسئولية الإشراف الكامل على إصدار صحيفة يومية»!

ولا أستطيع إنكار أنى استفدت استفادة مهنية ذاتية من هذا التغيير الذى طرأ على محمود أبوالفتح الصحفى، لقد كان يقضى معظم سهراته بنادی السيارات الملكى الذى كان آنذاك ملتقى أصحاب السلطان، مكتفيًا بالمرور على «دار المصرى» بعد انتهاء السهرة ليلقى نظرة على بروفات الصفحات، وأحيانا كان يكتفى بالاتصال بى تليفونيا من النادى أو من منزله للاطمئنان على سير العمل.

ومن هنا تفرغت كليًا لمسئولية إصدار صحيفة كبيرة، وأصبحت لا أغادر الصحيفة إلا فى الساعات الأولى من الصباح، لأعود إليها مرة أخرى بعد فترة راحة قصيرة، الوضع الذى أتاح لى الفرصة الكاملة لإعطاء الصحافة كل وقتى والإلمام بالعمل الصحفى بكل أبعاده الشاقة، إنها الضريبة التى تفرضها الصحافة على من يرغب فى الاستمتاع بما تعطيه من متعة ومعرفة.

بعد ذلك يتطرق الأستاذ «الحمامصى» لرواية ملامح مهمة من هذه التجربة فيقول:

«فى عام 1942 كنت سكرتيرًا لتحرير جريدة المصرى - الوفدية، وفى مطلع هذا العام وقع الخلاف العميق بين رئيس الوفد «مصطفى النحاس» باشا وسكتيره العام الأستاذ «مكرم عبيد باشا» وتطور هذا الخلاف إلى خصومة مكشوفة، كان من نتائجها حدوث تصدع فى الحزب أدى إلى انفصال «مكرم» عن «الوفد» ومعه مجموعة من أعضاء مجلس النواب الوفديين، وكنت أنا واحدًا منهم، وكان لزامًا علىَّ أن أترك منصبى فى الصحيفة لاستحالة أداء واجبى الصحفى فى صحيفة تنطق باسم حزب أختلف معه فى الرأى السياسى!

 

 

 

 

وتحدثت فى ذلك مع المرحوم «محمود أبوالفتح» صاحب المصرى الذی صارحنى القول بأنه يتفق معى فى الرأى السياسى، وهو يرى أن تمضى صحيفته فى هذه المرحلة صوب تقديم كل وجهات النظر بين الفريقين الوفديين المختلفين!

سألته: هل يعنى هذا أن تسمح المصرى لمكرم عبيد فى هذا الظرف بنشر رأيه؟

فأجاب: وما الذى يمنع؟!

وكان «مكرم عبيد» من الساسة المصريين القلائل الذين يملكون القدرة على الخطابة بأسلوب رائع يلهب به حماس الجماهير، كما كان كاتبًا صحفيًا بطبيعته ويكتب بين الوقت والآخر كلمة قصيرة تحت عنوان «حكمة اليوم» يقرؤها الناس فى ثوانٍٍ وإن كانوا بعد ذلك يظلون يتحدثون عن مضمونها لساعات طويلة.. كانت هذه الحكمة منبره فى مهاجمة خصومه وخصوم الوفد بلباقة المتمكن العارف بأسرار لغته العربية!

واتصلت بمكر م عبيد فور حديثى مع «محمود أبوالفتح» وطلبت منه كتابة حكمة لعدد الغد وضحك مكرم قائلاً: «أو تضمن نشرها»؟!

قلت: إنها ستكون حاسمة للموقف بينى وبين صاحب المصرى!

وكتب «مكرم» حكمته فعلاً، ووضعت فى مكانها بالصفحة الأولى، ولكن المرحوم «محمود أبوالفتح» جاء إلى دار المصرى فى ساعة متأخرة من الليل ورفع الحكمة من موضعها مقررًا بذلك عدم نشرها!

وفى تلك الليلة دخلت عليه فى مكتبه وقلت له: إن هذا المنع يعنى أن أمضى فى تنفيذ قرارى بترك عملى آسفا فى الصحيفة، التی أتاحت لى بعد تخرجى فى كلية الهندسة مباشرة فرص تحمل مسئولية الإشراف الذی يكاد يكون كاملا علی إصدار صحيفة يومية فى ظروف صعبة!

وفتح المرحوم «محمود أبوالفتح» درج مكتبه، وأخرج منه بضعة أوراق ووضعها أمامى ثم قال: إن الوفد يملك نصيبًا فى المصرى، وإذا أنا اتخذت قرارًا بنشر ما يريد «مكرم» نشره، فإن ذلك معناه أن أدفع ما علىّ للوفد فورًا، وهذا ليس متوافرًا لدىّ!

بالطبع كانت صدمة الصحفى الشاب «جلال الدين الحمامصى» فی ذلك الوقت ولم يمنعه ذلك من تأمل ما جرى بقوله:

«وربما لم يكن الأمر كما صوره لى من أن وضعه المالى لا يسمح له بسداد حصة الوفد المالية فى الصحيفة، إذ إن «محمود أبوالفتح» كان فى المركز المالی الذی يسمح له بدفع ما قال إنه مدين به للوفد، إلا أن وصوله إلى مرحلة الثراء والسلطة الواسعة هو الذى صرفه إلى حد كبير عن أمرين يتحتم أن يتمسك بهما الصحفى دائمًا، أولهما: المثابرة على الكفاح وثانيهما: أن يدفع عن مهنته صفة الاستسلام لغير ما يؤمن به!

إن الذى لا شك فيه أن فترة عملى فى جريدة المصرى مع «محمود أبوالفتح» قد أضافت المزيد إلى خزينة تجاربى، أولها وأهمها أن الاستقلال فى العمل الصحفى وإن كان أمنية الكثيرين إلا أنها أمنية صعبة المنال لأنها تتطلب إيمانًا راسخًا بمبدأ الاستقلال ومدلوله الحقيقى!

وكذلك استعدادًا ذاتيًا للإقدام على مواجهة احتمالات التضحية بالكثير من أجل تحقيق هذا الاستقلال، حتى لو أدت التضحية إلى التنازل عن ثراء تحقق له من عمله الصحفى!

ويمضى الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فى تقييمه لمحمود أبوالفتح قائلاً: «لقد كان «محمود أبوالفتح» صحفيًا ممتازًا، وحقق لنفسه مكانة صحفية مرموقة من خلال عمله كمندوب سياسى لجريدة الأهرام، ثم اشترك فيما بعد مع زميلين هما «محمد التابعى» و«كريم ثابت» فى إصدار صحيفة المصرى الصباحية منافسة للأهرام، واستطاع الثلاثة بقدراتهم الصحفية العالية تثبيت أركانها، ثم انفرد «محمود أبوالفتح» بملكية الصحيفة وجعلها حزبية ناطقة باسم «الوفد» وخلال الحرب العالمية الثانية استطاع أن يحقق لنفسه ثراء ملموسًا»!

ولم أكن أتخيل - فى تلك الفترة - أن يكون ثراء صاحب الصحيفة مصدر ضعف لا قوة له، بل كنت أتصوره سلاحه القوى فى المضى صوب تحقيق استقلاله إذا أراد ودافعًا له بغير حدود لتحسين السلعة الصحفية التى يقدمها للقراء إلى أن تكشف لى بالدليل الملموس أن حرص الصحفى على هذا الثراء وخوفه من ضياعه إنما هو السلاح المضاد الذى تنكسر على نصاله كل العزائم الصحيفة الصادقة والذى يجعله فريسة للقلق المستمر بحيث يتصور أن قراره بدخول كفاح من أجل المبدأ الصحفى المثالى سيؤدى به إلى ضياع الثروة، وهو قلق لا يساعد على مواصلة المسيرة الصحفية المثالية!

 

 

 

ويشير «الحمامصى» إلى نفوذ حزب الوفد على الصحافة الوفدية وقتها بقوله:

«إن احتكار الوفد لم يكن احتكارًا ماليًا يفرض نفسه علی الصحيفة وصاحبها، ولكنه كان يملك سلاحًا آخر بالغ الخطر، إذ كان يكفى أن يری الحزب أن ما ينشر فى صحيفة ما تنطق باسمه لا يرضيه فيصدر بيانًا قصيرًا فيه أن هذه الصحيفة لا تعبر عنه ولا تنتمى إليه لتغلق أبوابها فورًا لانصراف الناس عن قراءتها وعدم قدرة صاحبها المالية على الاستمرار فى المقاومة».

وللذكريات بقية!