السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
جلال الدين الحمامصى: درس فى مبادئ الصحافة والحياة!

حكايات صحفية

جلال الدين الحمامصى: درس فى مبادئ الصحافة والحياة!

 فوجئ الصحفى الشاب «جلال الدين الحمامصى» أثناء نشر سلسلة تحقيقاته الصحفية «قلوب متحجرة» باستدعاء الزعيم «أحمد ماهر باشا» المشرف على تحرير جريدة كوكب الشرق الوفدية ليطلب منه عدم الاستمرار فى حملته بعد أن قرأتها السيدة «صفية زغلول» - قرينة الزعيم سعد زغلول وتأثرت بها، والذى كان أحد الأطباء الذين اتهمهم الحمامصى بالإهمال مما أدى إلى وفاة زوجة أحد لاعبى النادى الأهلى وقتها!



اندهش الحمامصى لهذا التدخل ويروى ما جرى بعد ذلك بقوله:

«ولا أذكر أنى أحسست برهبة شديدة وأنا أستمع إلى الرجل الكبير وهو يبادلنى الرأى ويتفهم معى حقيقة المأساة، كان يتحدث إليّ كوالد لا يفرض عليّ قرارًا أو أمرًا، لقد كان يملك منع النشر ولكنه لم يفعل، أراد أن يسعى إلى إقناعى لأنى صاحب الموضوع وأن يعطى لى حق القرار بالتوقف عن النشر إذا أردت!

هذا الجو الهادئ من الحوار شجعنى على التوجه بسؤال للدكتور «أحمد ماهر» وما رأى معاليك فى هذا؟!

 

 

 

 

وابتسم الرجل ابتسامة رقيقة وقال: إنه يفضل قبل الإجابة أن يسألنى: هل انتهيت من عرض وقائع القصة كلها؟! أو بمعنى آخر: هل ترى إنك قد أديت واجبك الصحفى كاملا؟!

قلت: تقريبًا.

فعاود السؤال قائلا: هل تعنى أنك أرضيت ضميرك الصحفى؟!

وأدركت ما يعنى «عرفت أنه لا يريد فرض الرأى أو أن تكشف إجابته على تساؤلى الأول اتجاهه إلى احترام وتنفيذ رغبة السيدة الكبيرة «صفية زغلول» فى وقف النشر، لقد كنت أعرف أنهم يحملون فى أنفسهم إجلالًا واحترامًا لسيدة مصرية مناضلة وقفت مع زوجها فى أعنف الأزمات، فلم أتردد إزاء ذلك فى أن أقول: سأكتفى بما قدمت إلى القراء لأنى أحس أن ما تبقى هو قليل جدًا ولا يضيف إلى الموضوع جديدًا!

وأطرق الدكتور «ماهر» قليلًا ثم رفع رأسه ليقول: اسمع إنك مازلت حرًا فى أن تقول ما تشاء أو أن تمضى فى موضوعك كيفما شئت، فنحن فى حاجة إلى شباب يؤمن برسالته ويؤمن بحق الصحافة فى أن تقول ما تشاء.. إن أمامنا طريقًا طويلًا إلى إن نكتسب ثقة الناس فى الكلمة المطبوعة!!

ورغم مرور سنوات طويلة على هذه الواقعة إلا أن الأستاذ جلال الدين الحمامصى عاد ليتذكرها بكل حب وعرفان بالجميل فى كتابه «من القاتل» الصادر عام 1985 ويقول:

«ولا أريد أن أضيف إلى ذلك المزيد مما قاله الرجل إنما اكتفى بالقول بأن هذا الرجل - أحمد ماهر باشا - رغم اختلافى معه حزبيًا فيما بعد عندما آثر ترك الوفد وتشكيل حزب جديد هو «الحزب السعدي» فإنه لم يفقد على الإطلاق احترام الجميع - وأنا منهم - لصلابة مواقفه الديمقراطية وسلامة منطقه فى مجابهة خصومه بالإضافة إلى شجاعته.

فقد عاش من أجل الكلمة الصادقة، ودخل السجن فى بداية مرحلة نضاله السياسى ضد المحتل البريطانى وتقلد أرفع مناصب الدولة ثم مات قتيلًا فى البهو الفرعونى بمجلس النواب فى يوم كان يدافع فيه عن قضية يؤمن بها ويعرف أنها لمصلحة بلده، وكانت شجاعته هى التى دفعته إلى ذلك!

وبفضل هذا الرجل - وغيره ممن زاملتهم فيما بعد سياسيًا وصحفيًا - رسخت فى عقلى وفى قلبى المبادئ التى خرجت بها من بلدى دمياط: الاستقلال فى الرأى والتمسك بالحقيقة، وأن الصحافة يجب أن تكون فى أيدى الذين يؤمنون بهذه المبادئ ولا يحيدون عنها!

ويسترسل «جلال الدين الحمامصى» فى ذكرياته الصحفية المبكرة قائلاً: «ولا بد من القول بصراحة إن استعدادنا للعمل - بالمجان - قد أعطانا جواز المرور إلى داخل دور الصحف الحزبية واستعداد أصحابها لمنحنا الفرصة ودفعنا إلى الأمام، وكان أهم ما لفت نظرنا هو أن هذه الصحف لا تدار بطريقة حديثة، ولهذا فهى متخلفة إداريًا وفنيًا وإعلانيًا أمام التطور الحديث الذى كانت تخطو إليه الصحف المملوكة لغير المصريين!

كانت الصحافة المصرية فى فترة الثلاثينيات مازالت بعيدة عن أن تكون صناعة!

ومازلت أذكر كيف كان المرحوم «أحمد حافظ عوض» صاحب «كوكب الشرق» يدفع للدكتور «أحمد ماهر» راتبه من واقع أذونات مالية كانت ترفق بالإعلانات القضائية، وقيمة كل منها عشرون قرشًا فكان يجمع هذه الأذونات ويقدمها إلى الرجل السياسى الفقير ليحصلها من إدارة البريد، بل مازلت أذكر كيف كان المحررون يواجهون فى أول كل شهر صعوبات فى صرف رواتبهم أو الحصول على أجزاء منها»!

ويضيف الحمامصى إلى ما سبق قائلاً:

«ولكن لأننا نشتغل بالمجان فلم تكن مشكلة الراتب أول الشهر هى التى تشغل بالنا، إنما كانت هناك احتمالات «التدخل» فى وقف نشاط صحفى يلتزم فى عمله المهنى بالصواب وخدمة الشعب، وكيف نعد أنفسنا لمواجهة هذا النوع من السيطرة ليست بالضرورة فى الحاضر، وإنما فى المستقبل.

ويكمل الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» ذكرياته الصحفية أيام الشباب:

«هذه المرحلة الشابة من مراحل مواجهة الواقع الصحفى كانت بالغة الأهمية بالنسبة لنا، فالأهداف المثالية التى كنا نتخيل إمكان الوصول إليها كانت تبدو لنا أحيانًا كثيرة صعبة المنال، وكان التدخل فى العمل الصحفى تتعدد أشكاله ومراميه أمامنا مما يزيدنا اقتناعًا بأنه هو العدو الأول الذى كان علينا أن نعد لمواجهته عدتنا!

إلا أن الذى كان يزيد من قلقنا وتمزق أفكارنا هو أنه ما من صحفى كبير إلا وكان يضيق ذرعًا بهذا التدخل، ولكنه لم يكن يتردد أو يعجز فى تقديم المبررات التى دفعته إلى إفساح الطريق لهذا التدخل المؤثر فيما يكتب أو ينشر على الناس!

ومع أن هذه المبررات لم تكن مقنعة لنا وكنا أحيانا نجد الشجاعة فى رفضها، إلا أنه رغم ما كنا نحاوله فى حدود إمكاناتنا المحدودة بحكم أعمارنا، فقد كنا نواجه فى ردود حاسمة بأننا مازلنا ناقصى الخبرة والتجربة وأن الأمانى شىء والواقع شىء آخر!

 

 

 

 

ويكشف الحمامصى عن سر مهم فى حياته الدراسية حين يقول:

«ولعل اختيارى للدراسة الجامعية «الهندسة» دون «الآداب» مثلا - وهى دراسة أقرب إلى الصحافة هو حصيلة الرغبة فى تحصين النفس والإعداد لمستقبل رزق غير مجهول وقتئذ، فى فترات كنت أحس فيها بالقلق الشديد من ارتباطى بمهنة كثيرًا ما فكرت بين الوقت والآخر فى الابتعاد عنها لكونها ليست بالصورة التى أردتها ولأنها ترتدى غير الثوب الذى رسمته فى خيالى!

لقد كانت الصحافة غرامنا الكبير فكيف يمكن البعد عنها بمثل هذه السهولة والخضوع للشيطان الذى يزين لنا تطليقها طلاقًا لا رجعة فيه؟ وهل يصلح لمهنة الصحافة من يستسلم للشيطان أو لعميل من عملاء الشيطان؟ وألا يكفى أن يكون مستقبلنا أحسن من حاضرنا ألا يكفى أن تتوافر لنا الإمكانيات التى تمنع التدخل - من أى نوع - للوصول بصحافتنا إلى صورة مثالية!

لقد كان الإنسان منا وفى مطلع شبابه يندفع وراء المثاليات متصورًا أن كل السبل قد مهدت لتحقيقها وليس مطلوبًا منه إلا الإمساك بها، ثم تحصينها فيضمن لها البقاء، كل ذلك كان يبدو سهلاً فى حين كان العكس هو الصحيح لأنه ما من مجتمع يخلو من عناصر الشر التى تتربص بعناصر الخير!

وللذكريات بقية!