السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أم المصريين تتدخل لوقف حملة صحفية للحمامصى!

حكايات صحفية

أم المصريين تتدخل لوقف حملة صحفية للحمامصى!

بدأ الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» حياته الصحفية فى جريدة «كوكب الشرق» الوفدية متطوعًا وبالمجان، كانت تجربة صحفية وإنسانية فريدة فى تفاصيلها والنتائج التى ترتبت عليها بعد ذلك!



فى البداية يصف «جلال الدين الحمامصى» اهتمامات صحافة تلك الأيام بقوله:

«كانت صحف تلك الفترة وخاصة الحزبية غارقة فى الموضوعات والمقالات والتغطيات الخبرية السياسية، ولم تكن قد اتجهت إلى الاهتمام بالنواحى الأخرى الإنسانية والمهمة بالنسبة لحياة الناس، وكذلك لم يكن الناس فى حاجة ملحة إلى تغطية هذه الاهتمامات لأن حياتهم كانت غارقة فى السياسة والتصادم فى الآراء بين الأحزاب والمفاوضات المستمرة والمتصلة بين مصر والحكومات البريطانية المتعاقبة من أجل تحقيق الاستقلال والوصول إلى معاهدة تنظم العلاقات بين مصر والمحتل!

 

 

 

 

فالصحافة المصرية كانت فى الواقع بما تنشره على نطاق واسع تعبر عن رغبات الناس، فهى لم تكن قائدة فى كل شىء بل كانت منقادة، وأهملت بهذا الوضع إلى حد ما إشعار الناس بأن الحياة ليست كلها سياسة، وأن مهمة الصحافة ليست فى تغطية كل ما يتعلق بها، بل لابد من أن تمد نشاطها المهنى إلى ما عداها، وهو كثير، إلا أن العاملين بالصحافة - وقد كانوا يرون أن سبيلهم إلى الارتباط بالجماهير هو أن يكتبوا فى السياسة - لم يساعدوا على تطور الصحافة، بل لقد أثر ذلك على الأدباء الكبار أنفسهم الذين رأوا أن الصحافة لا تعطى إنتاجهم الأدبى فرصة حقيقية فى العرض، ولهذا تحول مسار حياتهم بعد فترة طويلة من الزمن وبدلًا من تفرغهم للأدب والثقافة اضطروا للنزول إلى العمل فى ميدان الصحافة السياسية ككتاب سياسيين سعيا إلى رفع مستواهم المعيشى!

ولهذا تأثر الإنتاج الأدبى إلى حد ما ولم يزدهر كما يجب، بل تأثرت منزلة الأدباء عند الشعب وخاصة الذين اتخذوا مواقف سياسية معادية للوفد إذ انعكس حكم القراء على إنتاجهم الأدبى بسبب هذا اللون السياسى، وإذا كانت بعض قصائد الشعراء الكبار أمثال «أحمد شوقى» و«حافظ إبراهيم» قد وجدت طريقها للنشر فى الصفحات الأولى فذلك لأنها كانت سياسية تعالج مواقف شعبية ووطنية!

ويمضى الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فى رواية ما جرى وكما دونه فى كتابه المهم «من القاتل» فيقول:

 «لقد أحسسنا من واقع ما كنا نقرؤه فى الصحف الخارجية - بضرورة تطوير الخدمة الصحفية وعدم قصر ما ينشر فى الصحف فقط على العامل السياسى، بل لابد أن يكون العامل الاجتماعى وللقصة الإنسانية مكانها فى الصحف».

وبدأت أكتب سلسلة من التحقيقات الصحفية تحت عنوان «قلوب متحجرة» رويت فيها قصة إنسانية أتهم فيها بعض الأساتذة الكبار من أطباء الولادة بأنهم رفضوا المسارعة إلى إنقاذ سيدة أوشكت على الوضع، وكانت الولادة عسرة يتطلب الإشراف عليها خبرة أساتذة كبار إلا أنهم رفضوا الاستجابة لهذا الواجب المهنى والإنسانى فماتت هذه السيدة!

رويت الوقائع بغير زيادة أو مبالغة وإن لم أكتب أسماء الأطباء، فلم أكن راغبًا فى التشهير أو الإثارة، وإنما كنت أريد طرح مشكلة إنسانية لا أحب لها أن تتكرر، وأن يشعر الأطباء وغيرهم أن الصحافة تحاسب وتنقد وتتفاعل مع الجماهير.

ويشرح «جلال الدين الحمامصى» تفاصيل حصوله على معلومات الحكاية بقوله: «قصة المأساة التقطت خيوطها خلال بداية عملی الصحفى كمندوب رياضى فهى تتعلق بزوجة لاعب من لاعبى كرة القدم بالنادى الأهلى وكان زملاؤه فى النادى يتحدثون عن ظروف وفاتها دون أن يفكروا فى طرحها على صفحات الصحف، فلم يكن الجمهور يتطلع إلى الصحف كمنبر تطرح من خلاله آلامهم أو متاعبهم، بل لعلهم كانوا أبعد عن التفكير فى إمكان انطلاق الصحافة إلى معالجة أزمة قد تبدو شخصية، إلا أنها فى واقع الأمر تمثل مأساة إنسانية!

 

 

 

والتقطت أول خيط من خيوط القصة واتجهت بها إلى صاحب المأساة أطلب منه رواية الوقائع بدقة ملتزمًا - تلقائيًا- بالأمانة الصحفية فى ضرورة معرفة الحقائق الكاملة.

وسألنى لاعب الكرة: ولكن لماذا تسأل عن ذلك كله؟!

قلت: سأنشر القصة كاملة لئلا تتكرر المأساة!

وأصيب لاعب الكرة بالذهول وتساءل: هل هذا ممكن؟

ولم أكن أملك إلا إجابة واحدة وهى انتظر لتري!

ويعترف الأستاذ - جلال الدين الحمامصى - اعترافًا صريحًا عندما يقول: الخطأ الوحيد الذى وقعت فيه هو أني لم أحمل الوقائع وأدخل بها فى مواجهة مع الأطباء، فذلك هو ما تفرضه الأمانة الصحفية والعرض الصحفى المستقل لواقعة ما، لكن الشيء الوحيد الذى غطى على هذا الخطأ والذى أعتبره الآن بالغ الجسامة هو أن الوقائع التى رويت لى كانت صادقة ومدعمة بالقرائن، بحيث لم يستطع الأطباء تكذيبها، ومع هذا فقد كان ممكنًا أن يحدث العكس نتيجة لاكتفائى بنشر آراء طرف واحد هو المجنى عليه!

وحدث ما لم يتوقعه الصحفى الشاب.. جلال الدين الحمامصى فيقول: استدعانى الدكتور «أحمد ماهر» الزعيم السياسى الذى كان يشرف على تحرير جريدة «كوكب الشرق» ممثلا للوفد لمقابلته، وكان الرجل نموذجًا رائعًا للديمقراطى الحق والإنسان الذى يحترم الحقيقة ويقدسها، وكانت فترة توليه لرئاسة مجلس النواب فيما بعد من فترات «الرخاء الديمقراطى» إذ كان وهو ممثل للأغلبية الوفدية يعطى للمعارضة غير الوفدية حقها كاملا فى عرض آرائها وكان من رأيه إن حق المعارضة فوق حق الأغلبية.

وقال لى الدكتور «ماهر» إنه قرأ تحقيقات الصحيفة وأعجبه فيها «الصدق» والدفاع عن «حق الشعب»، لكنه يحب أن ينقل إليّ رجاء من سيدة كبيرة نعتز بها جميعًا بأن «نقفل» الكلام فى هذا الموضوع بعد أن أخذ حقه كاملًا من النشر!

وسألت: ومن هى هذه السيدة؟!

قال: «صفية هانم زغلول» قرينة الزعيم الكبير «سعد»، فقد قرأت القصة وتأثرت بها، ثم اتضح لها فيما بعد أن أحد الأطباء الذين تحدثت عنهم هو قريب لها، ويبدو أنه اتصل بها وطلب منها التدخل لعدم الاستمرار فى طرح المأساة»!!

ويمضى «الحمامصى» قائلًا: ولم تكن كلمة «التدخل» جديدة عليّ فقد كنت أتعرض خلال تغطيتى للأنباء الرياضية وما يجرى فى الأندية إلى نوع من التدخل فى صورة اعتراض أو احتجاج أو محاولة إقناع بعدم التعرض لهذه أو تلك من المشكلات الرياضية، ولكنه كان بالقطع لم يكن من نوع التدخل الذى يفرض على الصحفى بصورة أو بأخرى ضرورة التوقف عن متابعة ما يراه صوابًا.

ولهذا لم أكن أعبأ بمثل هذا التدخل ولا أقيم أى اعتبار له، بالإضافة إلى أن هذا النوع من التدخل كان طريقًا لإتاحة الفرصة لكل الآراء فى أن تظهر فى الباب الرياضى اليومى الذى كنت أحرره!!

أما هذا التدخل من جانب شخصية لها مكانتها وتأثيرها فقد كان مختلفًا إلى حد كبير ولم يسبق لى مواجهة نوعية مشابهة له، غير أن الظروف الصحفية والذاتية التى أحاطت بالتدخل فى هذا الموضوع هى التى ساعدت على اجتيازه - إلى حد كبير - دون خسائر ما!!

وأول هذه الظروف - وأهمها فى تقديرى - هو أن الوقائع التى نشرت كانت صادقة تمامًا ولو أن جزءًا منها لم يكن كذلك لوجد الأطباء فرصتهم فى الانقضاض على الصحفى الذى يشوه الوقائع لغاية فى نفسه.

وثانى هذه الظروف أن الرجل الذى كان على رأس الصحيفة والمسئول عما ينشر فيها كان يدين بحرية الرأى وإنها مقدمة عنده على كل شىء ومن هذا المنطلق فقد تصرف فى مواجهة هذا التدخل».

ولم يتوقف الأمر بين د.أحمد ماهر باشا والحمامصى عند هذا الحد.

وللحكاية بقية!