السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
هكذا كانت صحافة مصر زمان!

سـر ارتبـاط الأطفـال الحمامصـى ومصطفـى وعلـى أميـن بالوفـد

هكذا كانت صحافة مصر زمان!

فشل الأطفال الثلاثة - جلال الدين الحمامصى» و«مصطفى وعلى أمين» فى تحقيق حلم إصدار صحيفة من ورقة واحدة، كما فشلوا فى تمثيل مسرحية من إخراجهم وتمثيلهم، لكن هذا الفشل لم يقتل حلم الصحافة بداخلهم!!



 

وتمضى الأيام والشهور وتقوم ثورة سنة 1919 بقيادة «سعد زغلول» ويواصل جلال الدين الحمامصى رواية أحداث تلك الأيام بقوله:

«كان حزب الوفد بزعامة «سعد زغلول» هو الذى ارتضاه الشعب وكيلا عنه وإلى جانبه قامت أحزاب أخرى لكنها لم تستطع منافسة الوفد فى شعبيته، وإن كانت قد ساعدت الناس على تفهم حقوقهم الدستورية، وإدراكهم أن «الصحافة» وسيلة إعلام ويتحتم عليها أن تتوافر لها مقومات الحرية فى التعبير عن رأى الأحزاب، وأن تكون هى الميدان الذى تتصارع فيه الآراء وتتنافس فى توضيح وجهات نظرها للشعب.

وهكذا عاش الأولاد مرحلة انتقالية مميزة، زادت من حبهم للصحافة ودفعتهم إلى الارتباط بها والتفرغ لها، وجعلتهم كلما تذكروا مراحل الطفولة ارتسمت على وجوههم ابتسامات سعيدة لأنهم حققوا فيما بعد أمنية كبيرة من أمانيهم، أمنية الوصول إلى أعتاب بلاط صاحبة الجلالة!

••

ويعترف الأستاذ «جلال الدين الحمامصى كما جاء فى كتابه «من القاتل»:

ومرة أخرى جمعهم الارتباط بحزب «الوفد»، ولم يكن هذا الارتباط نتيجة لفهمهم الواعى لكل الأوضاع السياسية، وإنما لأن الوفد كان معبرًا عن إجماع الشعب، ومادام الشعب قد قال كلمته فلا مناص من التسليم بأنها الكلمة النهائية، هذا الشعب الذى شهده الأولاد الثلاثة فى دمياط وخلال ثورة 1919.

كانت طبيعة هذا الارتباط بالوفد مختلفة، الإخوان التوأم - مصطفى وعلى أمين - ارتبطا به لأنهما كانا من أقرباء الزعيم «سعد زغلول»، من ناحية والدتهما، أما الثالث فقد كان ارتباطه بالوفد مغايرًا لكل الأوضاع المنطقية، فأهله جميعًا كانوا ممن انفصلوا عن الوفد وآثروا الاشتراك فى تأسيس حزب «الأحرار الدستوريين»، لكنه برغم صغر سنه وجد فى تصرف كبار رجالات أسرته ما يتنافى مع الواجب الوطنى، إذ كان يرى بفطرته وحسه الوطنى، أن مصر لازالت فى حاجة إلى وحدة لا تفكك فيها ولا ثغرات ينفذ منها المحتل أو آلاعيب السراى بحيث يتحقق لأحدهما أو كليهما تطبيق مبدأ «فرق تسد»!

 

 

 

ومنذ تلك الفترة التى انفصل فيها عن إجماع أسرته أحس بطاقة جديدة تتحرك فى نفسه، طاقة التحدى والتمسك بالرأى الذى يراه صوابًا حتى ولو ضحى فى سبيله بالكثير! صحيح أنه لم يكن فى السن التى يقام فيها لرأيه أى اعتبار، لكن ذلك لم يكن يعنيه فى شيء، بل كان سعيدًا بأن يكون صاحب رأى مستقل رأى لا يُفرض عليه بل اختاره بنفسه وبتفكيره البسيط!

ولقد أفادته هذه الصفات جميعًا خلال  فترة عمله الصحفى، بل قادته فى النهاية وبعد فترة طويلة من اختبار الناس لاستقلاله وصدق نواياه فى التصدى لكل نوع من أنواع الفساد، إلى موقع الاحترام من الخصم قبل الصديق، وهل يتمنى رجل الإعلام الصادق أكثر من هذا الكسب!

وتمضى السنوات ويتفرق الأولاد الثلاثة ولا أذكر أنهم كانوا يتبادلون الرسائل على البعد، ومع هذا فإنهم كانوا كلما جمعتهم الصدفة أو المناسبات العائلية فيما بعد - يحسون وهم يتبادلون الرأى فيما مر بهم أو يمر ببلدهم مصر بأنهم لم يتفرقوا، فالرأى بينهم مازال متقاربًا وأفكارهم متطابقة ويعيشون الآمال نفسها ويتطلعون إلى اليوم الذى يجدون فيه معًا تجربة الاتصال بالجماهير، وأن تكون فى هذه المرة تجربة واقعية تستمد قوتها مما تعلموه فى الحياة ومما مر بهم من محاولات فاشلة!

كانت الصحافة قد أصبحت جزءًا من حياتهم، أراد الأهل ذلك أو لم يريدوا، فقد كان من الواضح أن هناك إجماعًا عائليًا على إبعادهم عن هذه المهنة التى لا مستقبل لها -هكذا كان رأيهم - ولم يكن باقيًا أمامهم على تحقيق أمنيتهم إلا اجتياز مرحلة من مراحل الدراسة النهائية يسمح لهم حصادها بإتقان التعبير عن أنفسهم وعن أفكارهم!

••

وعن حال الصحافة المصرية فى ذلك يكتب ويؤرخ الحمامصى لها قائلًا: كانت الصحف التى تصدر فى هذه الفترة إما حزبية تعبر عن آراء الأحزاب القائمة وعلى رأسها حزب الوفد الغنى بصحفه المتعددة التى تعبر عن اتجاهاته، ولكنها مملوكة لأصحابها، أو الصحف التى يمتلكها غير المصريين من السوريين أو اللبنانيين وهى صحف كانت تدعى أنها ملتزمة بسياسة «استقلالية» لا انحياز فيها إلى حزب من الأحزاب، إلا أنها كانت فى أغلب الحالات تنحاز إلى فكر أو رأى داخلى من جانب السراى أو من توجه داخلى!

 

 

 

كانت الصحف الحزبية متعثرة فى خدمتها الإعلامية بسبب إمكاناتها المادية المحدودة وتطلع البعض من أصحابها إلى تحقيق الربح من وراء الانضواء تحت لواء «الوفد» دون توجيه هذا الربح إلى النهوض بصحفهم فنيا، فى حين كانت الصحف المواجهة لها أكثر رسوخًا وأكثر تطلعًا إلى الصرف بسخاء نسبيًا، فى مقابل تحقيق الخدمة الجيدة، فقد اتخذوا الصحافة تجارة، والتجارة الرابحة هى التى تطور إنتاجها لتجذب به أوسع قاعدة جماهيرية إليها.

وكانت قدرات أصحابها - السوريين - على دعم النواحى الإدارية والمالية أكبر بكثير من قدرات أصحاب الصحف الوطنية، كانوا أكثر فهمًا لقيمة الإدارة المنظمة، ولهذا تفوقت صحف الشوام وأصبحت موضع ثقة القراء الذين صدقوا تمسكهم بالاستقلالية المتزنة، مما أعطى للشبان الثلاثة عندما كبروا فهمًا جديدًا للصحافة الناجحة وهو الاعتماد على الإدارة الجيدة والحسابات المنظمة، أو بمعنى أدق أن تدار اقتصاديًا، وأن تلتزم بالصدق فى تقديم الأخبار، وأن تعطى الآراء المختلفة حقها فى النشر مادامت هذه الآراء صادرة أو نابعة من عقول ملتزمة بالواقعية!

ولكن الصحف الحزبية لم يكن يعنيها التنظيم الإدارى كثيرًا أو قليلًا، ولهذا كانت فى موقع الأضعف عندما بدأت الصحافة تدخل مرحلة صناعية وتعتمد على الآلات الحديثة وعلى العقل المحلل للأنباء بلا انحياز، وترتكز على المندوب الصحفى المتخصص فى جميع الأنباء، والمحقق الصحفى الذى يتجه إلى العالم الخارجى ليزيد من معرفة المصريين به، وهو الوضع الذى دفع الصحف الحزبية إلى تغيير فهمها للصحافة، وإن جاء هذا متأخرًا بعض الوقت، واتجهت إلى الاهتمام بالنواحى الإدارية قدر ما تهتم بالنواحى الفكرية والإعلامية، إلا أنها لم تستطع وخاصة الصحف الوفدية، التخلص من الانتماء الحزبى المتزمت خشية أن تفقد تأييد الوفد لها فينهار الركن الأساسى من أركان وجودها فى السوق.

ولكن هذا لم يمنع مع التطور الفكرى الحزبى فى مصر وسيطرة الفن الصحفى العلمى على كيان الصحف من قيام مواجهة سياسية بين الصحف الوفدية ورئاسة الحزب.

وفى الوقت ذاته كانت الصحف الأخرى -صحف الشوام البعيدة عن الأحزاب تحاول جاهدة الالتزام بالاستقلال فى العرض الإخبارى، ولكن هذا التصرف الاستقلالى كان يبدو لى أنه غير مستكمل لجوانبه الحقة والكاملة التى تشكلت فى خاطرى كشاب صغير محدود المعرفة، وإلى جانب ما كانت تردده الألسنة الحزبية وغيرها من أن واحدة منها ذات ميول خارجية معينة وأن الأخرى ذات علاقات وثيقة بدار المعتمد البريطانى، أو أن الثالثة تحرص على علاقات طيبة بالسراى، لكن المؤكد أن هذه الصحف كانت ماهرة فى إخفاء هذا أو ذاك! ولم تكن تتردد كلها أو معظمها فى خوض المعارك الوطنية بكل أمانة فى التعبير!

ويعترف الأستاذ «جلال الدين الحمامصى»: ورغم أنى كنت وفديًا متطرفًا فى ذلك الوقت وأعمل فى صحيفة، وفدية، إلا أنى كنت أضيق ذرعًا إذا ما أحسست أن صحيفة من صحف الوفد تحاول حبس الحقيقة أو التدخل فى موضوعات صحفية وإن كانت لا علاقة لها بالسياسة، إلا أن نشرها يضيق به بعض المحاسيب، أو بمعنى آخر كانت هناك مجاملة لمن له صلة برؤساء الحزب أو المقربين منه». وللحكاية بقية!