السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الحمامصى ومصطفى وعلى أمين وأيام الطفولة!

حكايات صحفية

الحمامصى ومصطفى وعلى أمين وأيام الطفولة!

لا أظن أن أحدًا من أطفال هذه الأيام يحلم بأن يكون صحفيًا عندما يكبر، وأظن أن حلم كل طفل الآن أن يكون لاعب كرة وأن يحقق ما حققه النجم الكبير فخر العرب جميعًاَ «محمد صلاح»!



الزمن غير الزمن، والأجيال غير الأجيال؛ لكن منذ حوالى مائة سنة كان هناك ثلاثة أطفال، كانت الصحافة حلمهم الوحيد، ونجحوا فى تحويل الحلم إلى حقيقة، بل أصبحوا من نجوم الصحافة المصرية والثلاثة هم الأساتذة الكبار النجوم جلال الدين الحمامصى، ومصطفى وعلى أمين!

 

 

 

وتفاصيل الحكاية رواها الكاتب الكبير «جلال الدين الحمامصى» فى كتابه الممتع والمهم «من القاتل» - صدر عام 1985 - ويحكى فيه تجربته عن محاولة إصدار صحيفة مثالية يحلم بها تفيد القارئ المصرى والعربي!

يقول الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» عن بداية الطريق: أذكر أننا كنا ثلاثة المرحوم على أمين ومصطفى أمين وأنا ولكنى لا أتذكر كم كانت أعمارنا إذ ذاك، وإن كنت واثقًا أننا كنا بالقطع فى مرحلة تكاد تكون أقرب إلى الطفولة منها إلى بداية مرحلة الفهم والإدراك، ومع هذا فقد كنا نتصرف تصرف الكبار أو هكذا كان يخيل إلينا!

كانت أعمارنا متقاربة وكذلك كانت أفكارنا، ومن الغريب أن يكون هذا التقارب فى الفكر يدور حول ما يسمى بالتعبير عن «الرأى» ومخاطبة الناس بوسيلة إعلامية أو أخرى حتى ولو كان هؤلاء الناس أكبر سنًا وعلمًا ومقامًا!

ولم يكن فى محيطنا العائلى من يعمل أو سبق له العمل فى مهنة التعبير عن الرأى، إلا أننا كنا نراقبهم وهم يقرءون ما تأتى به الصحف التى تصدر فى العاصمة ويدخلون فى جدل حول ما تشتمل عليه من أنباء أو تعليقات!

ولم نكن نعيش فى القاهرة بل كان مقامنا فى دمياط، المدينة التى التصقت بأهلها صفة «البخل» وإن كنت أصمم على تسميته بالحرص الذى يجنبهم الاعتماد على الغير، إن أحدًا لم يدرك أن أهل دمياط امتازوا بخاصية مهمة هى الحرص على استقلالهم الذاتى والداخلى وعدم السماح لأى دخيل أجنبى بأن يكون شريكًا لهم فى صناعاتهم أو أعمالهم التجارية وغير التجارية.

 

 

 

ويسترسل الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فى سرد الدور الذى لعبته دمياط فى ثورة 1919 ويضيف: شهد الأولاد الثلاثة هذه المراحل وعاشوا الفترات الرائعة من كفاح دمياط وجهاد أهلها، فهل كانت هذه الفترة وما تميزت به هى التى جعلت هؤلاء الأولاد الثلاثة اجتمعوا حول الرغبة فى إبراز كل هذه المعانى وذلك بإصدار «ورقة» تطبع أو تكتب باليد يسجلون فيها الرأى والنكتة والفكرة والحوار والنقد الفنى والمسرحى خاصة، وفوق ذلك تعريف الجمهور عن طريق الخبر بما يجرى فى مجتمعهم الصغير!

وهل كان ممكنا لمن هم فى مثل أعمارهم أن يفعلوا ذلك؟ ولماذا لا؟!

وهل كانوا يدركون أن هذه الوريقة يطلق على شبيهاتها اسم الجريدة أو الصحيفة؟! أو كما كان يقال عنها فى تلك الأيام «الجرنال» أو«الفازيتة»، وهما لفظان مشتقان من اللغة الأجنبية تركية كانت أو فرنسية! وهل كان هدفهم ألا تعتمد دمياط على ما يطبع فى القاهرة من صحف وأن تكون لدمياط صحيفتها المستقلة عن كل ما عداها؟!

بالقطع فإن هؤلاء الأولاد كانوا يتصرفون بعقلية تتجاوز أعمارهم ويدركون أن هناك متعة فى «الاتصال بالجماهير» ولكن كيف لهم ذلك وهم لا يملكون المال الذى يساعدهم على تحقيق هذه الأمنية؟ ولهذا لم يكن غريبًا أنهم عندما فكروا فى إصدار هذه «الوريقة» راحوا يطرقون أبواب أهل المدينة الذين يعرفونهم - بحكم انتماء ثلاثتهم إلى عائلات معروفة - ويطرحون عليهم الفكرة ويسألونهم العون المالى أو ما يطلق عليه حاليًا اسم «التمويل»!

 

 

 

ويتذكر الأستاذ «الحمامصى» تلك الأيام فيقول: مازلت أذكر هذه البسمات الساخرة التى كانت ترتسم على شفاه علية القوم، فهم أمام صبية يتحدثون عن عمل «إعلامى» يحتاج إصداره أول ما يحتاج إلى إتقان القراءة والكتابة وأسلوب التعبير، وبينما كانت.. بنطلوناتهم القصيرة كانت أبلغ جواب على أنهم لا يملكون شيئا من ذلك، ومع هذا فإن البعض من علية القوم لم يشأ أن يثبط من عزيمتهم، فأخرجوا من جيوبهم بضعة ملاليم - والمليم جزء من العملة التى كانت لها فى ذلك الوقت قوى شرائية، إلا أنها بالقطع لم تكن قادرة على تمويل إصدار وريقة!!

ورغم الفشل الذريع فى جمع الملاليم الكافية لتمويل هذا المشروع الكبير فإنهم أقدموا على إصدار الوريقة مطبوعة بالحبر الأزرق والبالوظة، ولا تطلب منى أن أشرح لك كيف كانت تتم عملية الطباعة، فهى من الوسائل البدائية التى كانت تستعملها دوائر الحكومة السنية - هكذا كانت تسمى حكومتنا فى ذلك الوقت - فى طبع المنشورات والقرارات الإدارية!

ورأى الأولاد أنها وسيلة قادرة على أن تحقق هدفهم وأن تصدر الوريقة وبها أفكارهم وتبرز نشاطهم الصحفي!!

 

ويمضى الأستاذ جلال الدين الحمامصى فيروى ما جرى بعد ذلك قائلا: وصدر العدد وكان الأول والأخير، فقد أحس الأولاد الثلاثة أن «التمويل» يقف عقبة كبرى أمام عملية الصدور، وأن التوزيع الضئيل - أو المعدوم - قد حكم على تجربتهم بالفشل، ولعلهم أحسوا من ذلك أن «الاستقلالية» التى غرستها فيهم طبيعة «الدمايطة» غير متوافرة الأركان وإنه لا جدوى من العودة إلى مد اليد إلى أعيان المدينة طلبًا للعون.. وضمانًا للاستمرار!

وأغلقت الوريقة وكان قرار إغلاقها أليمًا، ولكن طبيعة الدمياطى كانت تدفعهم إلى عدم اليأس، وأنه إذا كانت واحدة من وسائل الاتصال بالجماهير قد فشلت، فهناك وسائل أخرى، ولهذا لم يدم ألم الفشل الأول طويلًا، فقد أقنع الأولاد الثلاثة أنفسهم بأن المحافظة على الاستقلال هى خير عوض.. ولكن الاستقلال عن من؟!

ويفسر ذلك الأستاذ جلال الدين الحمامصى بقوله: لعل التفسير الذى يمكن تقديمه الآن هو الاستقلال عن مد اليد مرة أخرى إلى من لديه القدرة على التمويل والتمكين من استمرار المحاولة الصحفية، ومن هنا كان لابد من البحث عن وسيلة أخرى وما أكثر هذه الوسائل، وتفتق ذهن أحد الأولاد الثلاثة عن فكرة تقديم مسرحية تعرض على مسرح شعبى، وفى سرادق تفتح أبوابه لجميع الناس بالمجان!

كان المهم عندهم أن تصل فكرة «المسرحية الوطنية»! ولكن من يؤلفها إلى أسماع وقلوب الجماهير الغفيرة، وهكذا توقعوا مسبقا أن يقبل الشعب الدمياطى على العرض المقترح!

وكتبت المسرحية ولا أذكر ماذا كان مضمونها، وإن كنت أظن أنها لم تكتب على ورق، وإنما تُرك للممثلين أن يقدموا بحرية ما يشاءون!!

والغريب أن الأولاد الثلاثة نجحوا فى تنفيذ الفكرة، ولكنهم فشلوا فى جذب الجماهير - حتى بالمجان - لمشاهد المسرحية أو متابعة أحداثها وكيف يمكن أن يقبل الناس على عمل يمكن وصفه بأنه «صبيانى» ويتزعمه ثلاثة أولاد مازالوا فى مرحلة الدراسة الابتدائية!!

وأغلق المسرح وأسدل الستار على لا شيء!!

ومرة أخرى يشعر الأولاد الثلاثة بحزن عميق ويعيشون مأساة الفشل فى الاتصال بالجماهير لأسباب واقعية تتعلق بالجمهور، وعدم نجاحهم فى إقناعه بجدية عملهم الإعلامى أو الفنى، ومع هذا فلم يتبادر إلى أذهانهم قط أن أعمارهم لم تكن فى المستوى الذى يمكنهم من الإنتاج القادر على جذب الجماهير، وأن هذه الجماهير قد اعتادت الاستماع أو الإنصات لمن امتلأت خزائن عقولهم بالفكر الناضج والرأى الخبير والنصائح النابعة من العارفين ببواطن الأمور الذين يملكون مصادر العلم والمعرفة!

ولذكريات الأستاذ جلال الدين الحمامصى بقية!