الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
  رسالة الإمام.. وصلت  «الحلقة الثالثة»

رسالة الإمام.. وصلت «الحلقة الثالثة»

اجتهد الإمام الشافعى.. فأخذ ورفض ورد وأيّد من أقوال الصحابة والتابعين. كانت عبرة الشافعى فى الأخذ من الصحابة والتابعين: صحة القول.. وثبوت نسبه. أو صحيح الحكم الشرعى.. وثبوت قول الصحابى أو التابعى.



ورفض الشافعى الأخذ بالحديث الضعيف. ورفض الحديث الآحاد.. إلا إذا ثبت قول النبى له.

وأغلب الأحاديث الآحاد.. مشكوك فيها وضعيفة. وعلى هذا استقر فقهه.

إذًا رسالة الإمام الشافعى هى: جواز إعمال العقل.. والتدبر فيما ورد من سنة نبوية.. أو حكم شرعى.. بتحرى العلة أو السبب.. والعمل على أساس المصلحة.. وأخيرًا الأخذ بالأيسر.

 

(1)

اجتهد الإمام الشافعى.. واجتهد تلاميذه من بعده. ورغم أنه غيّر كثيرًا من فتاواه لمّا جاء إلى مصر.. إلا أن تلاميذ له أخذوا عنه ما كتبه فى مصر. ورفضوا ما لم يكتبه.

قالوا إن الأولى فى فقه الشافعى ما كتبه. فما كتبه فى مصر فنأخذه عنه.. أما ما كتبه فى العراق، وأفتى بغيره فى مصر فلا نأخذه. لأنه لو كان غيّر فيه رأيه.. لكتبه. والمكتوب أولى من غير المكتوب.

وجاء أهل الفقه.. فى عصور ما بعد الشافعى، فأخذوا بالأيسر تأسيسًا على بعض آراء الشافعى.

الأخذ بالأيسر يعنى العمل على أساس الفتوى الأسهل على أساس المصلحة. والشرط فى العمل على أساس المصلحة، عدم مخالفة نص واضح فى القرآن الكريم.

لذلك فمع مستجدات المشكلات فى العصور الحديثة، واختلاف المصالح، لا بد للفقه أن يتغير، وأن يعمل مزيدًا من العمل طلبًا للمصالح.. وتيسيرًا على عباد الله.

فى عصور الاجتهاد، بعد الشافعى، أخذ علماء المسلمين بالمصالح، وبالاجتهاد، وأعملوا العقل حتى فى السنة النبوية.

بعضهم رفض الحديث النبوى، إذا خالف متن الحديث المعقول.. أو صحيح المنقول. أو خالف القرآن الكريم. رفض بعضهم من الحديث ما لا يتماشى مع العُرف.

فَهِم المسلمون الأوائل الإسلام على المراد الذى أنزله الله من أجله. وفهموا القرآن الكريم على أساس علة الحكم.. وسببه.

واستقر الفقه (الإصلاحى) على طول التاريخ الإسلامى على أنه: «حيثما توجد المصلحة فثمة شرع الله».. وأن: «الحكم الشرعى يدور مع علته وجودًا وعدمًا».. فإذا انتفى السبب من الحكم.. أو زال.. أو تغيّر.. تغيّر الحكم الشرعى أو زال أو انتهى العمل به.

كيف انتشر فقه الشافعى فى أرض الكبار، وفى وجود مالك.. وآراء الإمام أحمد.. وفتاوى أبى حنيفة؟ على أى أساس ظهر الشافعى على أساتذته؟

كيف عارض آراء مالك، وقبل الناس، وخالف آراء ابن حنبل وقبل الناس أيضًا؟ كيف وضع قواعد جديدة... لفقه جديد وقبل المسلمون.. وعملوا به؟

الإجابة فى الأخذ بالأنسب.. وبالأصلح.. وبما يطمئن له القلب.. ويعمل به العقل.

ظهر الإمام الشافعى وسط معركة هائلة بين مذهب أهل العراق والحجاز فى مسألة تقديم الرأى على السنة أو العكس.. ووسط مذهب الحنفية الذى كان فى بداياته فى الظهور بالعراق.. وما وراءه من بلدان.. حيث إن به الخلفاء.. ودعا له قاضى القضاة أبو يوسف.

فى المقابل.. كان مذهب الإمام مالك.. يزاحم مذهب أبو حنيفة، فتغلب عليه مع ظهور الدولة الأموية بالأندلس.

ظهر الشافعى وسط معركة بين المحدثين، وبين أتباع مذهبى مالك وأبو حنيفة، وخلافهم الأكبر في جواز الأخذ بحديث دون آخر.. وأسباب ذلك.. وأدواتهم فى الحكم على صحة الحديث.. متنًا وسندًا.

شهرة مذهب الإمام الشافعى كان لها سببان: الأول إعمال العقل فى الحكم الشرعى.. والثانى: تيسير المصلحة.

وعاب الشافعى على المالكية تركهم بعض الأحاديث الصحيحة إرضاء لأهل المدينة، وعاب عليهم العمل بالحديث المرسل.. لأن الاحتجاج بصحة الحديث المرسل على أساس حسن الظن بالتابعين وحده لا يصح.

اشتهر مذهب الشافعى لأنه أخذ من الجميع، لصالح الجميع.. ولصالح المجتمعات الإسلامية فى الأساس.

فخرج مذهبه جامعًا فى الفكر العام أو فكر الجمهور.. وأسس أصلًا وهو الأخذ بالسنة عند توفر شروط الأخذ بها.. وهى الاتصال وثقة الرواة.

لذلك التف حول الشافعى أهل الحديث وسموه: «ناصر السنة».. وصل الأمر إلى أن قال الزعفرانى: «كان أصحاب الحديث رقودًا حتى جاء الشافعى فأيقظهم فتيقظوا».  

وأخذ الشافعى بالقياس فيما لم يكن فيه نص، مخالفًا لأهل المدينة.. فربح أهل المدينة، وربح أيضا أهل الرأى.. وانتشر مذهبه فى العراق.. وفى مصر.. وفى المدينة أيضًا.. رغم خلافه مع أهل الحديث.

خلال مسيرته.. لم يخش الشافعى أن يدخل معارك اختبار أقوال الأولين.. وأحكامهم.. وأسباب أحكامهم.. وعلاتها.

لم يخش الشافعى أن يخالف حكمًا قديمًا بحكم جديد. لم يخش أن يبتكر.. ويجتهد إذا اختلفت المصالح، وتوالت الأزمات.. والمشكلات الاجتماعية.

كيف يأتى اليوم من يتمسك بأقوال الأولين، رغم اختلاف المشاكل.. وتغير الأزمان.. ويقول إن الاسلام لا يجوز فيه الاجتهاد بعد عصور التابعين؟

 

 

 

(2)

التراث أشكال وألوان. والتراث هو النقل.. والمشكلة الأولى فى مواجهة التجديد هى النقل عن النقل.. بلا فحص. النقل عن الأولين.. النقل عن المسلمين فى عصور الإسلام الأولى.. نقل الأحكام ونقل الاجتهادات.. ونقل وجهات النظر فى مشكلات المسلمين.. بصرف النظر عن تغير الأزمان.. وبغض الطرف عن تعقد المجتمعات.. وتطورها.

أول سؤال على طريق التجديد يظل دائمًا: هل يصح أن يظل النقل قبل العقل؟ أم أن التجديد، والحداثة، وما يستجد من أمور الدنيا، والدين يجيز ويستلزم أن يسعى المسلمون لأن يأتى العقل قبل النقل؟

إصرار الأشاعرة على اعتبار النقل قبل العقل واحدة من المشكلات الكبرى فى الطريق للتجديد.

الأشاعرة من المذاهب الإسلامية المتقدمة. البعض يصفها بالتزمت.. والبعض الآخر يصفها بالجمود.

السبب أن أغلب الأشاعرة يصرون على اعتبار «العقل» في خدمة «النقل».. لا العكس.

النقل لدى الأشاعرة هو كل ما ورد أو نُسب إلى عصر المسلمين الأوائل، والتابعين وتابعى التابعين. 

«كل ما ورد» مقصود به كل ما وصل عبر الزمن من سنن نبوية، وأفعال واجتهادات الصحابة فى تفسيرات القرآن الكريم وأحكامه.. وتطبيقاته.

مفترض أن فى الإسلام مرونة لأنه أُنزل للعالمين. لم ينزل الإسلام لأهل عصر ما.. أو زمنًا ما. لذلك فى الإسلام مرونة.. أهم أسبابها سنة الله فى تغير المجتمعات.. وتلاحق الأزمان مع ثبات النص.

لا يتغير النص.. لكن تظل فى أحكامه من المرونة ما يستوعب الأزمنة.. والتغيرات.. بتقديم حلول تستوعب مشكلات المجتمعات الإسلامية التى اختلفت عن مشكلات عصور المسلمين الأوائل.

من قال إن المطالبين بالتجديد يريدون اللعب فى الأصول الدينية؟ من قال إن ما يقصده المطالبون بالتجديد الافتئات على ثوابت نصية؟

(3)

منذ عصر الخليفة المتوكل (عصر الاضمحلال العباسى) سيطر النقل على الدين. رفض الأشاعرة أية مطالبات بإعادة تقييم «المنقول». المنقول هنا يبدأ من أول اجتهادات الأوائل فى الأحكام الشرعية لحلول المشكلات.. وانتهاء بإعادة فحص ما يتداول من سنن وأحاديث منسوبة للنبي (ص). 

منذ نشأة علم الفقه في القرن الثاني الهجري، حتى الآن، لم يحدث أن تعدى الفكر الأشعرى اختيارات وترجيحات بين آراء الصحابة أو التابعين.

لم يحدث أن أثمر الفكر الأشعرى عن تخريجات جديدة حتى مع تغيّر الزمن، وتغير المشكلات التى تواجهها المجتمعات الإسلامية. الأشاعرة سلفيون.. والفكر السلفى جامد ثابت.. غير مرن. ضَيّق الفكر السلفى الدين باعتبار المسلمين الأوائل هم الإسلام.. واعتبار اجتهاداتهم فى تفسير القرآن الكريم هى «الباترون الرسمى والسماوى» للاجتهاد فى الإسلام.. بصرف النظر عن الظروف.. وبصرف النظر عن المستجدات.

رسخ الأشاعرة قواعد لإسلام ضيق.. وعقيدة «سمعية نقلية» تحتفى بظاهر النص فى تفسير الدين.. وتحتفل بأقوال الصحابة.. وتعتمد على النقل.. وعلى التراث.. وعلى كل ما وصلنا منه..  بتسليم كامل.. وتقديس هائل.

وكانت أزمة. أو هذه هى المشكلة.