الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
 رسالة الإمام.. وصلت «الحلقة الثانية»

رسالة الإمام.. وصلت «الحلقة الثانية»

قال الله تعالى فى كتابه العزيز (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا). 



ظل البيعُ حلالاً على إطلاقه حتى عصر التابعين وتابعى التابعين. وفى عصره حرّم الإمامُ الشافعى بعضَ البيوع، كالمحاقلة والمذانبة وبيع العينة وبيع النسيئة لشبهة إهدار حق البائع أو ذهاب حق المشترى.

وفى كتاب الله العزيز جاء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، لكن استقر الفقه الإسلامى فيما بعد على عدم جواز الاعتداد بعقود الغرر وعقود الإذعان.

 

 جاء لفظ العقود فى القرآن مطلقًا، كما ورد لفظ البيع. لكن جاء أهل الفقه فيما بعد نزول القرآن، وبعد عصر الصحابة وعصور التابعين وتابعى التابعين ليزيدوا وينقصوا ويحددوا ويضيّقوا ويوسّعوا طلبًا للمصلحة وفهمًا أفقه للنص ومراده وأسباب أحكامه.

اختلف الإمام الشافعى مع الإمام مالك، والاثنان على بيان. واختلف الحنفية مع المالكية والمالكية مع الحنابلة. والكل على بيان.

غيّر الإمام الشافعى أحكامه لما ورد مصر. رحلة الشافعى كانت طويلة بين مكة وبغداد وصولاً إلى مصر. غيّر الشافعى أحكامه وفقًا لظرف الزمان والمكان ووفق أرضيته المعرفية فى زمنه وسنوات عمره من شبابه لكهولته.

حكم الشافعى فى البيوع فى مصر غير أحكامه فى العراق. فالبيئة مختلفة والأعراف أيضًا مختلفة. حكم فى مصر فى الأحوال الشخصية والطلاق والزواج وفى غيبة الزوج وإيلائه ومهر الزواج عاجله وآجله بكثير مما اختلف عن أحكامه فى مصر.

سألوا تلميذًا من تلاميذ الشافعى: أنأخذ ما أفتى به فى بغداد أمْ بما كتبه فى مصر؟

أجاب: بل خذوا عنه من مصر.. فإن للأزمان بيانًا. المعنى أن للزمن والظروف أثرًا فى الفهم والوقوف على مراد من وضع الشريعة من الشريعة. 

 

 

 

(1)

حكم بعض أهل المدينة فى الزواج على أنه للمرأة مؤخر صداقها بأحد الأجلين إمّا طلاقًا أو وفاةً. وفى مصر حكم بعض أهل الفقه فيها بأن للمرأة أن تقبض صداقها، حتى المؤخر منه، وقتما تطلبه حتى ولو لم تتطلق وعلى زوجها أن يدفع لها حتى وهى فى بيته. 

نَصّ كتابُ الله على صداق للمرأة يحل دخول زوجها به عليها ولا ينعقد زواج إلا بمهر. جاء الفقه فيما بعد ليفصل فى المهر، ومقداره، وأحواله. وضع الفقه للمهر أحكامًا للمؤجل منه والمعجل.

رتب الفقه فى الخطبة ووضع أحكامًا للهدايا وما تتحصل عليه الخطيبة من خطيبها، وما يجب أن ترده لو انقطعت الخطبة، وما لا يجب أن ترده لو أنهى الخاطب الخطبة على غير رغبة المخطوبة.

اعتمدت الأحكام الفقهية على ظروف البلد وعلى العُرف المتبع فيه إضافة إلى المصلحة.

استهدف الفقه المصلحة وضبط المجتمعات. فى المدينة كانت الفتوى بأن الزوجة لو مرضت فلا نفقة لعلاجها من زوجها. فسّر بعضهم حكم انتفاء النفقة للزوجة المريضة بانعدام قدرة الزوج على الانتفاع بها أو معاشرتها.

فى مصر شدد الفقه على أن للمريضة نفقة علاج من زوجها ولها أجر خادم ولها أجر ركوبة واجبة لو خرجت للحج.

لا ينفصل خطاب الدين فهمًا للنص عن المجتمعات. وكلما زادت المشكلات والمسائل اجهد الفقه نفسه بحثًا عن حُكم شرعى للحل. حلول الفقه فتوى. والفتوى صلاح للمجتمعات وإصلاح لمصالح الناس.

الإسلام عبادات يصح بها الدين، ومعاملات تصح بها الدنيا. اجتهد فقه مصر والعراق بالمعاملات تقديمًا على العبادات. غاص أهل مكة والمدينة فى العبادات والحديث تقديمًا على المعاملات.

الفرق فى شكل وطبيعة المجتمع وتشابك علاقاته واهتماماته ومن ثم مشكلاته.

اشتهر أهل العراق بالفن والرأى ودرسوا الكواكب والنجوم. اشتهر أهل مصر بالتجارة والفلسفة والفن وعرفوا الحساب والهندسة وانفتحوا بحُكم الجغرافيا والتاريخ على شعوب الأرض كلها.

فى المقابل انغلق مجتمع المدينة ومكة على نفسيهما فى زمن ما، أدى مع مرور الوقت إلى اعتبار علوم القرآن والحديث النبوى هما أعلى المراد من العلم والمعرفة.

اختلفت الأحكامُ حسب طبيعة المجتمعات. واختلفت سِيَرُ الفقهاء حسب النشأة والجغرافيا.

أخذ الشافعى عن مالك فى المدينة ومكة، ولما جاء مصر استقر فقهه فأخذ عن الليث بن سعد وكتب كل ما استقر عليه فقه الشافعى المعروف لليوم.

الخلاف بين الليث بن سعد وفقه مالك كبير وكثير.

فقد تباينا فى الرأى والفتوى فى الجمع ليلة المطر، وتناقضا فى القضاء بشاهد ويمين. واختلفا فى مؤخر الصداق هل يقبض عند الفراق أو يصح حتى مع استمرار الزواج. 

واختلف الإمامان فى تقديم الصلاة على الخطبة فى صلاة الاستسقاء وقضايا أخرى. 

خلافاتهما دليلٌ على جواز الاختلاف فى فهم النص.. وفهم الحديث، وتأويله، واختبار المراد من أحكام الحكم الشرعى. 

 

كان خلافهما دليلاُ أيضًا على أن الأساس فى الحكم الشرعى المصلحة، وأن الاختلاف فى الفقه سُنّة إسلامية. 

اختلف قبل الشافعى ومالك الصحابة والتابعون. كان من الصحابة رضوان الله عليهم من يقرأ البسملة فى أول سور القرآن، ومنهم من لا يقرؤها. 

كان من الصحابة من يجهر بها.. ومنهم من يُسرّ. ومن الصحابة من اختلف فى طهارة المياه.. ومنهم من كان يقنط فى الفجر، ومنهم من لم يقنط فيه.

ومن التابعين من توضأ بعد القىء والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ منهما. 

من الصحابة من رأى فى مس المرأة ما ينقض الوضوء، ومنهم من قال إنه لا ينقض الوضوء إلا ما تعارف عليه من نواقضه.

من الصحابة من توضأ من أكل لحم الإبل.. ومنهم من لم يرَ فى لحم الإبل ما يمنع من الصلاة بعد أكله.

المهم أن كلهم صلوا خلف بعضهم. وكان كل منهم فى الإسلام صحيحًا. كانت المصلحة أساسًا.. وكان مبدأ تحرير المسائل.. وإطلاق المصلحة صلاحًا للمجتمع وهدفًا.

صلى أصحاب أبى حنيفة خلف الشافعى، وصلى أئمة العراق خلف أئمة المدينة، وصلى أئمة المدينة خلف أئمة العراق.. ولو لم يلتزم بعضهم بقراءة البسملة لا سرًا ولا جهرًا.

يروى أن الخليفة هارون الرشيد صلى إمامًا بعد حجامة.. وصلى خلفه الإمام أبو يوسف وأتم صلاته، رغم أن أبا يوسف كان ممن يرى بأن الحجامة تفسد الوضوء، وأن فساد الوضوء يبطل الصلاة.

عرف المسلمون الأوائل أن الدين الإسلامى رحب، وأن البراح فى الاستدلال على الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية خاضع للظرف، وللمكان، ولقدرة المجتهد، ولصريح فهم النص.. أو صحيح تأويله.. كل كما يرى؛ استنادًا للمصلحة.. وإعمالاً لكف الأذى.. وحفظ النفس والعرض والمال والدين.. والوطن. 

رفض الأئمة الأربعة فرضَ الرأى، أو إنزال الحكم الشرعى فى الفتوى، على أنه حكم الله.. أو المراد من كتاب الله.

كتب الإمام مالك الموطأ فى أربعين سنة. والموطأ هو أول كتاب فى الحديث والفقه فى الإسلام. 

وافق مالك فى الموطأ، على ما فيه من خلاف فى كثير من المسائل عند الشافعى وأبى حنيفة، سبعين من علماء الحجاز.. ومع ذلك فحين أراد الخليفة المنصور كتابة عدة نسخ من الموطأ، وتوزيعه على البلدان الإسلامية، وإلزام الناس بما فيه من فتاوى.. كان مالك أول من رفض.

يروى أن مالك قال للخليفة المنصور: «يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا له من اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وإنّ ردهم عمّا اعتقدوه شديد، فدع الناس، وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم؛ إلا ما عرفوا».

(2) 

اختلف الإمامان ​مالك والشافعى رضى الله عنهما فى عدة مسائل.. كان الأصل فيها فهمًا مختلفًا لكل منهما للنص.. أو للحديث.. أو لعلة حكمًا شرعيًا سابقًا، أو لسبب خفى فى طرق الاستنباط والاستدلال. 

لذلك قالوا: اختلاف الأئمة رحمة. والرحمة فى أن كلا منهما عمل بما رأى، حسب الظرف والزمن.. وحسب العرف وطبيعة المجتمعات ومستجدات مشكلاتها. 

خد عندك المثال: قال الإمام مالك إن «الرزق يأتى بلا سبب.. إنما لمجرد التوكل الصحيح على الله.. يرزق».

استند مالك فى فتواه تلك بالحديث الشريف: «لو توكلتم على الله حق توكله.. لرزقكم​ ​كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا​». 

أمّا الشافعى فرأى أن الاستدلال هنا فى غير موضعه.. وأن الحُكم بذلك الاستدلال ليس صحيحًا.. وقال: «لولا غدو الطير ورواحها ما رزقت.. وإنه لا بُدّ من السعى». 

استنبط الإمامان من نفس الحديث بنفس السند وبنفس المَتن ما اختلفا فيه.. فكان كل منهما على رأيه.

فى عصر الإمام الشافعى كان أهل الحجاز قد استقروا على أسُس فقهية أساسية فى تخريج الأحكام الشرعية. 

استندت فتوى أهل الحجاز على التوسع فى الاستحسان، والقياس على الأصول العامة للشريعة.. وأهمل أغلبهم اتصال أسانيد الحديث.

لكن الشافعى تبع منهجًا آخر شديد المخالفة. فقد أخذ الشافعى بالحديث النبوى، إن صح. ويصح الحديث عند الشافعى باتصال سنده، وثقة راويه، وصريح معقولية متنه مع كتاب الله.

أكثر ما خالف فيه الإمام الشافعى أهل الحجاز اعتباره أن صحة الحديث من اتصال سنده. تمسّك الشافعى باتصال السند لثبوت العمل بالحديث النبوى، فيما أخذ أهل المدينة بالحديث على ما هو وفضلوه عن الاجتهاد. وصل الأمر بالإمام ابن حنبل إنه قال «الحديث الضعيف أحب إلىّ من الرأى». 

والمقصود بالرأى هنا هو الاجتهاد.

اجتهد الشافعى فأصاب وأخطأ. كل يخطئ ويصيب. أصاب الشافعى فى شرط التأكد من صحة الحديث. وأصاب فى عدم اعتبار الحديث الضعيف حجة. وأصاب فى عدم الرأى بالحديث الآحاد إلا إذا تأكد من وروده عن النبى.. وصحت روايته. 

لكن يؤخذ على الشافعى، إبطال الاستحسان، وإنكاره العرف، وعدم الأخذ بالذرائع. 

يؤخذ عليه - رحمه الله - حصره الاجتهاد فى دائرة القياس.. فلم يقس على ما لم يرد فيه نص. 

 

 

 

(3) 

فتح مسلسل الإمام الشافعى أبوابًا كثيرة.. ودخل المنطقة الأهم من مناطق تجديد الخطاب الدينى.. منطقة الاجتهاد.. وإعادة النظر فى الأحكام الأولى للمسلمين الأوائل.. وإعادة النظر فى النص.. وإعمال العقل.. واختبار النقل.

المنقول هو كل وصلنا عن المسلمين الأوائل تفسيرًا للنص أو تأويلاً له.. أو تقريرًا لأحكامه.. أو تسبيبًا لعلله.

العلة فى الأحكام الشرعية هى السبب من الحكم والهدف من النص.

أعاد مسلسل الإمام الشافعى فتح الطريق أمام أسئلة كثيرة فيما يتعلق بقضية التجديد. أول سؤال على طريق التجديد يظل دائمًا هو: هل يصح أن نستمر على اعتبار النقل قبل العقل؟ أمْ أن التجديد، والحداثة، وما يستجد من أمور الدنيا، والدين أيضًا يجيز ويستلزم أن يسعى المسلمون لإعادة أعمال العقل.. حتى مع كثيرًا من النقل؟ 

 

بعضهم يصر على اعتبار «العقل» دائمًا.. فى خدمة «النقل».. لا العكس.

النقل بالمناسبة هو كل ما ورد أو نسب إلى عصر المسلمين الأوائل، والتابعين وتابعى التابعين. «كل ما ورد» مقصود به كل ما وصل عبر الزمن من سنن نبوية، وأفعال واجتهادات الصحابة فى تفسيرات القرآن الكريم وأحكامه.. وتطبيقاته. 

يرى بعضهم للآن أن النقل يبطل العقل.. أو أن النقل أولى من العقل. يتهم دعاة التجديد بالسعى إلى إبطال النقل.. وإلغائه.. والقضاء عليه. 

من قال إن المجددين يقولون بإبطال النقل؟

لم يقل أحد هذا. كل ما هنالك أنه بالضرورة لا بُدّ من مساحات بين النقل والعقل.. وأن للعقل أحيانًا جوازَ العمل على إعادة النظر فى أحكام الأوائل.. حسب المستجدات. 

فى الإسلام مرونة لأنه أنزل للعالمين.. لم ينزل الإسلام لأهل عصر ما.. أو زمن ما. حوَى الإسلام مرونة، أهم أسبابها تغير المجتمعات.. وتلاحق الأزمان.

لا يتغير النص، لكن يتغير محتواه. محتوى النص أحكامه.. وأحكام الله سبحانه فيها من المرونة ما يستوعب الأزمنة.. والتغيرات.. وتقديم حلول لمشاكل المجتمعات الإسلامية.. التى اختلفت بالزمن والسنين عن مشكلات وحلول عصور المسلمين الأوائل.