السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
رسالة الإمام.. وصلت  «الحلقة الأولى»

رسالة الإمام.. وصلت «الحلقة الأولى»

وصلت رسالة الإمام. وصلت رسائل الشافعى وعلى نهجها يسير الدين.. أو على هذا النهج ينبغى أن يسير. 



جمع الشافعى بين فقه أهل الرأى وأهل الحديث. شكَّل الإمام الشافعى حالة فقهية فريدة فى الاجتهاد وصولًا للأحكام الشرعية. 

للشافعى محطات فى تاريخ الفقه، عمَّم فيها الخاص، وخصَّص فيها العام.. زاد ورجع، وأضاف ونقَّح وفصَّل.. وصولًا إلى تمام ما كان يعتقد فيه صلاح الدين وصلاح أمة المسلمين.

 

تؤخذ رسائل الشافعى على ثلاث:

أولًا: تحرير المسألة.. ثانيًا: صريح المعقول من صحيح المنقول. ثالثًا: أن الاجتهاد أصل فى الدين، لا يوقف، ولا يتأخر.. ولا يؤخر ولا ينزع من الدين.. لأن فى الاجتهاد صلاح البلاد والعباد. 

ومن أهم رسائل الشافعى أن الدين يُسر، وأن الحقوق قضاء، وأن المصلحة هى أساس الشرع، ومناط الشارع من التشريع.

  يعنى المصلحة هى أساس الدين، وهى أساس المراد من رب العباد فى شريعته إلى بنى آدم.

والمعنى أن التأويل على المصلحة جائز،  والتفسير على المصلحة هو أيضًا جائز. وأن الأصل فى الدين الميل إلى تحرير المسائل، وأن الأصل فى السنة هو التأكد من ورودها عن النبى ﷺ. 

(1)

جمع الشافعى بين مدارس الفقه المختلفة، فهو درس وتفقَّه فى مكة على الإمام مالك. ولما سافر إلى بغداد، اتصل بابن الحسن الشيبانى، مع أن الشيبانى واحد من أصحاب وتلاميذ أبوحنيفة. 

فى التاريخ الإسلامى مثَّل أبوحنيفة  مدرسة العراق، أو ما درج على تسميتها مدرسة «أهل الرأى» فى الفقه الإسلامى.

  لكن أخذ الشافعى فى بغداد عن الشيبانى، قبل أن يدخل معه فى مناظرة  معروفة، انتصر فيها عليه، وكان انتصار الشافعى على الشيبانى انتصارًا لآراء مالك، بعدها ألف الشافعى كتابًا انتصر فيه كاملًا لمذهب مالك على مذهب أبوحنيفة.. رغم ما بقى من آثار فى فقه الشافعى من فقه الأحناف. 

غيَّر الشافعى مذهبه من مكة للعراق.. ثم أعاد ضبط أحكامه لما أتى إلى مصر. 

بعضهم يرى أن مسألة تغيير الإمام الشافعى لمذهبه خطأ تاريخى.. ومعضلة إسلامية.. لأن تغيير المذهب نقيصة لا يقع فيها الإمام.  لا هى نقيصة ولا هو خطأ..  بالعكس، فهم الشافعى الدين وفهم المراد من رب الناس فيما أنزل للناس.. كما ينبغى الفهم. 

فهم الشافعى الدين كما فهمه المسلمون الأوائل.. أو المسلمون فى عصور الإسلام الأولى. فهم الشافعى الإسلام كما أراده رب العباد لأهل البلاد. 

أنزل الله الإسلام رحمة للعالمين فى كل عصر وفى كل زمان. وفى أحوال الزمان  يتغير الناس، وتتغير البلدان، وتتغير الظروف والأماكن.. فتتغير المسائل وتظهر المشكلات، وتتضح الملمات.. ويبدو فى حجر الفقه ما لم يرد فيه نص. ولا ورد فيه حكم قديم. 

بعد الشافعى بمئات السنين ظهرت القاعدة التي تقول: إنه يجوز للإمام أن يعدل عن رأى لرأى.. إذا جد أو استجد ما يقتضى. 

يعنى يجوز للإمام العالم أن يعود عن رأى أول، لرأى ثانٍ إذا جد من الأمور، أو إذا اتضح من الأدلة.. ما يقتضى.  

 

ريشة: عبدالرحمن أبوبكر
ريشة: عبدالرحمن أبوبكر

 

(2)

أملى الشافعى فى مصر ما خالف فى كثير منه ما أملاه فى العراق فى مسائل الدين، بعدما استجد له من العلم بالنصوص وأوجهها.. ودلالاتها.. وعللها وأسباب أحكامها ما لم يكن قد فتح الله به عليه قبل وصوله مصر. 

يروى أنهم سألوا تلميذه الإمام أحمد رحمه الله: ما ترى فى كتب الشافعى التي عند العراقيين.. أهى أحب إليك أم التي عند المصريين؟

 أجاب الإمام أحمد: عليكم بالتي وضعت فى مصر.. فإن الشافعى قد وضع كتبه بالعراق.. ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكمها.  غيَّر الشافعى فى الفقه، وفى أصوله وقواعده. استحدث فى طرق الوصول إلى الأحكام الشرعية، وغيَّر فى أساليب الفقه الإسلامى. الفقه فى اللغة هو الفهم العميق. وفقه الدين هو فهمه.. وفهم المراد فى التشريع من نصوص الشارع. 

فى معركة القياس، اختص الإمام الشافعى لنفسه شكلًا «اجتهاديًا» فى أعمال القياس واستخدامه وصولًا إلى حلول المسائل.. وأحكامها. 

القياس فى علم أصول الفقه هو الدليل الرابع من أدلة الفقه بعد الكتاب والسّنة والإجماع.

فى عصور تابعى التابعين كان الخلاف ممتدًا على حجية القياس. 

يعرف القياس على أنه أصل من أصول الشرع، وحجة تستخرج بها أحكام الفروع المسكوت عنها. 

ويعمل بالقياس عند غياب النص.. أو انعدام الإجماع. 

لكن فى معارك الفقه الإسلامى، كان هناك من توسع فى القياس وأخذ به على الإطلاق، ومنهم من تحوط فيه، وقلل من استعماله.. ومن أهل الفقه من رفضه. 

عرَّف الشافعى القياس  بأنه: «حمل معلوم على معلوم.. فى إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما فى حكم أو صفة».  المعنى أن الشرط فى القياس، هو إلحاق  حكم منصوص عليه فى مسألة قديمة، على مسألة غير منصوص على حكمها حديثًا لاتحاد العلة أو اشتراك المسألتين فى سبب مشابه. 

(3)

فهم الشافعى القياس بالنسبة لعصره  وأرضيته المعرفية فى زمنه ووفق ظروف مكانه وزمانه. 

أساس القياس عند الشافعى كما فى كتابه الرسالة أن: «كلّ حكمٍ لله أو لرسوله وُجِدَت عليه دلالةٌ فيه أو فى غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِمَ به لمعنى من المعانى، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ، حُكِمَ فيها حُكْم النازلة المحكوم فيها، إذا كانت فى معناها».

صحيح فرّق الإمام الشافعى بين الاجتهاد والقياس. وصحيح أنه وحد طريقه فى الاجتهاد بالقياس. 

والصحيح أيضًا أن معنى «الاجتهاد» فى فقه رحمه الله، كان مرادفًا للقياس.. لكن هذا لا يغلق الطريق على من يأتى فى زمن آخر، وفق ظروف أخرى، وفهم أوسع أن يعمل بالاجتهاد.. ويوسع فيه. 

جاء فى كتاب الرسالة: «قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان. 

قال الشافعى: «هما اسمان لمعنى واحد». 

وفى التراث أن هناك من أنكر على الشافعى المساواة بين الاجتهاد وبين القياس. أو بكلام آخر.. هناك من عاب على الشافعى، رحمه الله، مساواته القياس بالاجتهاد. 

 قال بعض أهل الفقه: «قال الشافعى إن القياس هو الاجتهاد، وهو خطأ، لأن الاجتهاد أعم».. وهذا صحيح. 

لكن الصحيح أيضا أن الإمام الشافعى رحمه الله قدَّم فقهه على مقاس زمنه. وعلى قياسه، وعلى اجتهاده هو رحمة الله عليه. 

هناك من يرى أن الذي تطور ليس مفهوم الاجتهاد نفسه، إنما ما تطور وتغيَّر هو الاصطلاح من عصر إلى عصر. 

لكن هذا ليس صحيحًا على إطلاقه.. وليس خطئًا على إطلاقه. فبعد عصر الإمام الشافعى، جاء من يتوسع فى تعريف الاجتهاد.. ومن يتوسع فى العمل به حتى عُرف الاجتهاد بأنه «بذل الجهد فى إدراك الحكم الشرعى والوصول إليه». 

وفى عصورنا.. كان الاجتهاد هو التوصل للأحكام الشرعية، فى المسائل التي لم يرد فيها قرآن أو سنة. 

فى زمنه استخدم الشافعى القياس قياسًا على قرآن أو سنة، لا قياسًا أو استدلالًا على علة بعلة.. أو سبب بسبب. 

أخذ الشافعى فى زمانه بأحاديث الأحاد، وقدمها على القياس. لكنه اشترط فى الأحاد صحة ورودها على النبى ﷺ. 

قيل إن الإمام الشافعى اطمأن إلى حديث واحد  متواتر «من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». 

قال الإمام: هذا ما اطمأن إليه قلبى. 

وقدم الشافعى الإجماع على الحديث المنفرد.. وقال إن الحديث على ظاهره، فإذا احتمل الحديث معانى عديدة.. فإن الحكم فى الحديث لما هو أقرب الشبه من ظاهره. أو ما هو الأقرب لعله الحديث.. أو حكمه.. أو الغرض منه. 

أعمل الإمام الشافعى عقله فى السنة.. وما ورد عن النبى ﷺ. ورفض الحديث المنقطع. 

والحديث المنقطع هو الذي سقط من إسناده راوٍ. قال الإمام: «ليس المنقطع بشيء.. ما عدا منقطع سعيد ابن المسيب».

وسعيد بن المسيب من أهل المدينة.. وكان الشافعى أكثر اطمئنانًا لأسانيده. 

فهم الإمام الشافعى الإسلام.. فاجتهد.. وأرسى.. وأسس.. وخالف.. ورفض.. ووافق.. وتوافق.. فحيثما توجد المصلحة.. فثمة شرع الله.