السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
عزيزى عبدالحليم وحشتنا!

حكايات صحفية

عزيزى عبدالحليم وحشتنا!

ومع أول أيام شهر رمضان المبارك سنة 1973 بدأ بث أول حلقة لمسلسل «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» بطولة العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ على محطة إذاعة الشرق الأوسط. كان آخر عمل فنى درامى لعبدالحليم هو فيلم «أبى فوق الشجرة» الذى عرض قبل ذلك بعدة سنوات - سنة 1969 - واستمر عرضه لمدة عام كامل.



ولم يخطر ببال أحد - ولا عبدالحليم نفسه - أن يقوم بالتمثيل للإذاعه بصوته فقط، وكان شرط عبدالحليم الوحيد للقيام بهذه التجربة أن يقوم بكتابة الرواية للإذاعة الأستاذ محمود عوض ولا أحد غيره!

 

 

 

باقى الحكاية وتفاصيلها يرويها الأستاذ محمود عوض فى مقاله الممتع «عزيزى عبدالحليم وحشتنا» الذى نشره فى مارس سنة 1997 فى مجلة الشباب، أى بعد مرور حوالى 20 سنة على رحيل عبدالحليم.

يقول محمود عوض: كانت التجربة جزءا من نفوسنا وقلوبنا وأصبحنا نعيشها على مدار النهار والليل، ثم جاءت المفاجأة الكبرى ظهر اليوم العاشر من رمضان، إنها حرب أكتوبر، وأصبحنا نعيش عالمين هناك عالمنا الصغير فى ستوديوهات الإذاعة، فرغم أن الإذاعة غيرت برامجها جميعًا لتصبح فى خدمة الحرب، فإن تسجيل الحلقات كان لا بد أن يستمر ليتم شحنها فورًا إلى جميع إذاعات العالم العربى التى اشترتها مسبقًا ومستمرة فى إذاعتها!

ثم هناك عالمنا الكبير عالم الحرب التى أصبحنا نعيشها بكل ذرة فى كياننا بعد ست سنوات من التمزق، كنا نتناقل كل خبر، ونحلل كل برقية، ونناقش تطور، وكأن كل منا هو قائد الجيش شخصيًا، وفى الشوارع اختفت العصبية والغربة فجأة من أحاديث الناس، فجأة أصبحوا منضبطين فى سلوكهم، فبرغم حالة الإظلام الليلى التام فى القاهرة لم نشاهد حادث مرور، وبرغم تقنين السلع الأساسية، سكر وأرز وزيت وغيرها - بالبطاقات التموينية - لم يتزاحم أحد على السوق السوداء للشراء أو التخزين، فى الواقع اختفت السوق السوداء!

 

 

 

ويمضى محمود عوض فيرصد لحظات تلك الأيام المجيدة قائلا:

اكتشفنا فى سياق الحرب أن هناك الكثير والكثير يجمع بيننا كمواطنين واكتشفنا أن مصر تصبح أكبر أو أصغر بشعبها، بكل واحد فى شعبها.

وفى دائرتنا الصغيرة يريد «عبدالحليم» أن يساهم بصوته، و«بليغ حمدي» أسبق الجميع إلى عوده وموسيقاه، حتى جاء كمال الطويل الذى كان اختار لنفسه منذ سنوات التوقف عن التلحين، جاءته فجأة حالة جلوس إلى البيانو لكى يلحن!

وفى ليلة واحدة كان «عبدالحليم» يبحث عن كلمات، وأنا أعود إلى بيتى لإعادة قراءة أى قصائد شعرية مطبوعة لعل بعضها يناسب انفعالات كمال الطويل، وفجأة جاء إلينا كمال بلحن مدفع، إنه مجرد دقيقة أو دقيقتين، أو ثلاث لكن الطلقة الأولى فى كلماته: خلى السلاح صاحي!

فى الصباح التالى اتصل بى عبدالحليم ليقول لى: لقد نمت الليلة سعيدًا مرتين، مرة لأن «كمال» عاد يلحن لى، ومرة لأننى بموسيقاه سأشارك فيما يجري!

أصبحنا نعيش بآذاننا مع إذاعة القاهرة، نقفز متعانقين مع كل بلاغ جديد، نحتضن بعضنا مع كل انتصار يتحقق، نذهب إلى الاستوديو لنسجل بينما يذهب أحدنا إلى قسم الأخبار فى الإذاعة كل ربع ساعة، نعود إلى المنزل لنطارد فى الراديو كل محطات العالم، نفترق إلى بيوتنا لكى ننقل إلى بعضنا البعض بالتليفون كل خبر جديد، نصوم ونفطر ونتسحر وكل عقولنا فى الجبهة!

وفجأة اكتشفنا أننا أصبحنا نحتسى كميات من القهوة والشاى عشرين ضعف ما اعتدناه، بعد قليل نفد السكر من عندى، بعده نفد أيضًا من بيت عبدالحليم، وجاءنا« عبدالرحيم» «السفرجي» ليقول لنا محذرًا من هنا ورايح مفيش سكر.. تشربوا القهوة والشاى سادة!

وبعفوية جاءه الرد منا جميعًا: سادة سادة يا عبدالرحيم بس نحارب.

 

 

 

ويمضى محمود عوض فيرسم صورة بالكلمات لشخصية عبدالحليم حافظ الإنسان والفنان وعذاباته وانكساراته فيقول:

فيما قبل تلك الليلة وبعدها تتزاحم الحكايات والذكريات والمشاهد عن عبدالحليم، هذا الجريح فى أغنية «تخونوه» أو المشتعل فى أغنية «نار» أو الرقيق فى أغنية «فى يوم فى شهر فى سنة» أو المشتاق فى «رسالة من تحت الماء» أو المعذب فى أغنية «موعود» أو الثائر فى أغنية «حكاية السد» أو الحزين فى أغنية «قارئة الفنجان» أو.. أو..

لكن الذى يجمع بين كل هذا هو ذلك الصوت القادم من أعماق «عبدالحليم حافظ» بالرقة حينما يتيسر، بالإصرار حين يلزم، بالشدة حين يحب.. وبالصدق فى جميع الأحوال!

وكانت مشكلتى دائما وحتى الآن هى أن ذكريات «عبدالحليم» لم تنفصل عنى بالدرجة الكافية لكى أكتب عنه كما أعرف وأحب، ففيما عرفته وعاشرته من عبدالحليم، لم يكن هو مجرد الفنان الذى أحاطته الملايين بحبها، ولكنه كائن إنسانى متعدد التضاريس، متدفق المشاعر سريع الانفعال وأيضا شديد التراجع عن الانفعال، وشديد الاحتراق فعلا وانفعالا!

وعبدالحليم خاض مشوار نجاحه مرتين، أولا لكى يصل إلى القمة وثانيا لكى يستمر فيها، فى المشوار الأول وجد عبدالحليم من شاركوه وكانوا جزءا من نجاحه، ووجد من حاربوه أيضًا، هكذا لا يمكن أن نفهم ظاهرة عبدالحليم بغير أن نفهم أساسًا مشاركة «كمال الطويل» و«محمد الموجي» ثم بليغ حمدى، فى الوصول إلى قلوب الناس بلون جديد وسط أسماء كبيرة وقتها كانت لها أيضا قاعدتها الجماهيرية العريضة!

فلنترك هنا «أم كلثوم» و«محمد عبدالوهاب» جانبًا، يكفى أن نتذكر «فريد الأطرش» و«محمد فوزي» و«عبدالعزيز محمود» و«عبدالغنى السيد» من بين أسماء أخرى، هذا يعنى أن «عبدالحليم» اقتنع من البداية بأن عليه ألا يكون بديلا لأحد أو مزاحمًا لأحد لأن القمة تتسع لكل موهبة!

وفى ذلك الجانب نريد أن نتذكر أيضًا أن عبدالحليم لم يكن فى أى وقت مطرب السلطة كما يحاول بعض ضعاف النفوس تفسير نجاحه، فبعد الاختراق الأول الذى حققه عبدالحليم إلى قلوب الجماهير كان هناك من تبنوا صوتًا بديلًا اسمه «كمال حسني»، أقلام بارزة وصحف كاملة حشدت نفسها لتقديم «كمال حسني» كمنافس لعبدالحليم، وكمال حسنى نفسه تعاقد على بطولة أفلام سينمائية وقُدمت إليه ألحان عذبة من ملحنين كبار ومضت فى سبيل حملة دعائية كبرى، لكنه فى النهاية توارى واستمر «عبدالحليم» نجمًا أول فى المرمى الحاسم والنهائى: قلوب الجماهير.

ويحكى محمود عوض عن بعض الحروب التى تعرض لها عبدالحليم فيقول: صحيفة كبرى قاطعت أخبار وصور عبدالحليم لأكثر من سنة كاملة ليس عن موقف من الجريدة ضده ولكن عن مصالح ضيقة ونفوس ضعيفة، وأن بعض النافذين فى الصحافة الفنية أوهموا أنفسهم ذات يوم بقدرتهم على إزاحة عبدالحليم من قلوب الناس وإحلال آخرين محله يكونوا أكثر إذعانًا لاحتياجاتهم الصغيرة!

ويختتم محمود عوض مقاله الممتع بقوله: ويا عزيزى عبدالحليم.. من بعد الأشواق والسلامات والسنوات.. أنت معنا صوتًا وأداء وصدقًا ونجمًا أول مع ذلك يا أخى وحشتنا!