الأحد 22 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أرجوك لا تفهمنى بسرعة!

مفاجأة عبدالحليم حافظ الإذاعية

أرجوك لا تفهمنى بسرعة!

منذ خمسين عاما بالضبط وكان ذلك فى شهر رمضان المبارك سنة 1973 انفردت إذاعة الشرق الأوسط بتقديم أول مسلسل إذاعى يقوم ببطولته الفنان الكبير عبدالحليم حافظ وهو مسلسل «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» الذى كتبه الأستاذ الكبير «محمود عوض»..



ظروف وملابسات كتابة المسلسل مثيرة ومدهشة كما رواها بنفسه الأستاذ محمود عوض فى مقاله الشهير عزيزى عبدالحليم» وحشتنا فى بداية المقال الممتع يتحدث قائلا:

 

أتحدث عن سنوات أخيرة فى حياة «عبدالحليم» عرفته خلالها عن قرب شديد رغم فوارق عديدة بينها مثلا فارق أجيال، بالنسبة لى كان عبدالحليم هو الصوت الذى عشش فينا انفعالا وتفاعلا، وفى الإذاعة المدرسية بمدرسة طلخا الثانوية كنا نتسابق على إدارة أغانى عبدالحليم طوال فترة الفسحة الكبيرة ونتدافع إلى أفلامه السينمائية فى عرضها الأول بسينما «عدن» فى «المنصورة».

فى حينها لم يدر فى خلدى أن ظروفا سوف تأتى فيما بعد لكى تجمعنى فيها بعبدالحليم تجارب إنسانية عميقة سواء فى ليالى القاهرة أو خريف الإسكندرية أو شتاء لندن أو أمطار نيويورك أو مفاجآت الرباط ودفء الدار البيضاء، ولا كان فى بالى أيضا أن صداقة عميقة ستربط بيننا على المستوى الشخصى فأكون ضيفًا عليه فى بيته أو هو ضيف علىّ فى بيتى!

••

ويمضى الأستاذ «محمود عوض» قائلًا: هكذا نشأت وتعمقت العلاقة الشخصية بين عبدالحليم حافظ وبينى وهى علاقة كان الفضل فيها يعود إلى عبدالحليم فى الأساس، ربما كان حريصا على أن يتابع الجديد فى كل ما يحيط به فيما هو أوسع كثيرا من دائرة الغناء والموسيقي!

 

 

 

وحينما عرفت عبدالحليم كان يتربع بالفعل ومنذ سنوات طويلة على عرش الغناء ومع ذلك وحتى رحيله لم تتوقف الحرب ضده! وفى بعض تلك اللحظات كان عبدالحليم يفاجئنى بعذابه بل وبدموعه لأنه كان متأكدًا مسبقًا من أننى لن أستخدم لحظات ضعفه هذه ضده ذات يوم.. فلا مصالح بيننا لكى تتقاطع ولا علاقة عمل تجمعنا لكى نختلف!

وقد حدث فى مرة واحدة أن جمعتنى علاقة عمل بعبدالحليم وهى قصة «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» وهى العمل الدرامى الوحيد الذى سجله عبدالحليم للإذاعة عن قصة كتبتها لشهر رمضان، وهو الشهر الذى تصل فيه المنافسة بين محطات الإذاعة المختلفة إلى ذروتها، وكل محطة تركز اهتمامها أولا على المسلسل الدرامى الذى تذيعه عقب الإفطار، والمخرج الكبير الراحل «محمد علوان» مثلا كان يظل يفكر ويفكر طوال الأحد عشر شهرًا فى قنبلته الدرامية التى يريد أن يفجرها فى شهر رمضان متجاوزًا المحطات الأخرى!

وبعد محاولات سنوية مستمرة مع عبدالحليم نجح «علوان» فى إقناع «عبدالحليم بالوقوف أمام الميكروفون، ولأن عبدالحليم هو نجم الغناء العربى وجمهوره بالملايين من الخليج إلى المحيط فقد كان طبيعيًا أن يبدأ علوان أولا بالاتفاق معه، وحينما ذهب علوان إلى عبدالحليم بعقد الاتفاق ليوقعه حتى تبدأ الإذاعة خطواتها التالية قال له:

- يا أستاذ عبدالحليم هذا عقد تقليدى مطبوع لكنك بالطبع تستطيع أن تضيف إليه أية بنود أخرى وسيسعد الإذاعة أن تنفذها لك!

 

 

كان «علوان» مهيأ نفسيًا لأن يطلب عبدالحليم مثلا ميزانية استثنائية له أو لإنتاج المسلسل، لكن عبدالحليم أمسك بقلمه ليضيف إلى العقد بندًا واحدًا بخط يده، أن يكتب «محمود عوض» قصة المسلسل!

لا أعرف شيئا مما جرى لأن عبدالحليم طلب من علوان التكتم الكامل، وذات صباح اتصل بى عبدالحليم قائلًا: هل أمر عليك بعد نصف ساعة لنذهب سويًا فى مشوار ما  بعدما جاءنى سائقه «عبدالفتاح».. الأستاذ تحت فى انتظارك، وفى السيارة راوغنى عبدالحليم فى «الإفصاح عن طبيعة هذا المشوار لكن السائق انطلق إلى الجيزة إلى شارع الهرم ثم إلى اليمين بعد شارع الهرم»، إنه الطريق الصحراوى، لكن إحنا رايحين فين يا حليم؟! قال: أبدًا فكرت نروح العجمى نتغدى هناك ونقضى واجبًا بسيطا ونرجع!

أخذت كلماته على علاتها فقد سبق له أن أشركنى معه فى حكايات تهمه لكن فى هذه المرة يريد الذهاب معه إلى العجمى، حيث كان له شاليه هناك بدا لنا فى حينها كقصر منيف رغم بساطته الشديدة!

••

وهنا تبدأ المفاجأة غير المتوقعة تماما التى يرويها محمود عوض قائلا: فى الصباح التالى استيقظت لأجد الهدوء طافيا وبحثت فى أنحاء الشاليه لا أثر لعبدالحليم ونزلت  إلى الجراج لا سيارة، خرجت إلى عم «فرج» أسأله أنه أيضا لا يعرف، وكل ما يعرفه هو أن الأستاذ نبه عليه برعايتى على مدار اليوم وبعدها انطلق بالسيارة فى صحبة «عبدالفتاح»!

 

 

بعد ساعات دق جرس التليفون، المكالمة ترنك ثم المفاجأة، هاها ها خلاص يا عم أنا رجعت مصر وأنت محبوس فى العجمى لغاية ما تكتب القصة!! بعدها فقط أبعث لك «عبدالفتاح» بالسيارة يرجعك رمضان قرب ومفيش وقت.. هاهاها!!

ويكمل محمود عوض: كانت الكتابة لعبدالحليم مسئولية كبرى، فبعد كل شيء يشرف كبار كُتاب القصة أن يكون ناشرهم الدرامى هو «عبدالحليم حافظ»، وفى هؤلاء لم أكن واحدًا من الكبار ولا من الصغار، فى الواقع كنت لا أزال احتفظ لنفسى باجتهاداتى الأدبية رعبًا من امتحان القارئ والآن يضعنى عبدالحليم فى الامتحان بعفوية وطيب خاطر، وأيضا بثقة أصبحت سيفًا على رقبتى، وعلى مدار أيام بعدها أصبح عبدالحليم يكرر اتصاله بى من القاهرة مرات كل يوم، نتحدث ونثرثر فى كل مرة عن أى شيء إلا عن مشروع القصة. حينما أعادتنى سيارة عبدالحليم إلى القاهرة كان ينتظرنى معه مجدى العمروسى، شريك عبدالحليم ومحمد عبدالوهاب فى شركة صوت الفن - إذن هو غداء عمل، ومجدى هو عين عبدالحليم وأذنه على الجمهور خصوصا إذا تعلق الأمر بفيلم جديد أو مشروع جديد!

 

 

 

بمجرد أن قلت أن عنوان القصة هو «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» طلب مجدى التوقف مرة ومرتين قبل الدخول فى الموضوع، مجدى لا يضيع وقتا إن لديه مشروع فيلم لعبدالحليم حافظ من إخراج «يوسف شاهين» والفيلم عنوان مؤقت هو «وتمضى الأيام»، الآن يريد مجدى أن يقترض منى عنوانى ليعطيه إلى الفيلم والثمن ألف جنيه وقال لى: أنت مندمج الآن فى جو القصة وتقدر تختار لها عنوانا آخر جديدا وبنفس الجاذبية!

قلت: إيه؟! قال مكررا آخذ منك أربع كلمات وأعطيك ألف جنيه!

كان ألف جنيه من مجدى العمروسى خصوصا هى معجزة فى حد ذاتها!

والمعجزة الأكبر فى ذلك الزمن تعنى أن أصبح والمليونير «أوناسيس» فى كفة واحدة، فكلانا يتحدث بالآلاف, غايته سيبقى بيننا فارق العملة!

وبصعوبة شديدة قبل «مجدى» اعتذارى قبل أن ينصرف، وبصعوبة أقل بدأنا نفكر فى الأبطال المناسبين للقصة، إن عبدالحليم كان معتادًا - وهذا حقه - على قصة البطل الواحد، لكنه فى هذه المرة يقبل فى سماحة أن يكون الأول بين متساويين، لأن القصة تعبر عن قضية جيل بأكمله، وفيما بعد كان «عادل إمام» و«نجلاء فتحى وآخرون» شديدو الإبهار فى تقمصهم لشخصيات الرواية، بل إنه فى واحدة من أغانى المسلسل الخمس اشترك الجميع فى الأداء مع «عبدالحليم» فى لحن خفيف الدم وضعه «منير مراد» وشارك فيه بصوته أيضا وبكلمات «محمد حمزة» أغنية تعبر بالضبط عن الطموحات المختلفة لهؤلاء الطلبة الذين تخرجوا فى الجامعة لتوهم ليبدأوا ملاطمة الواقع والحلم بتغييره.

كانت التجربة جزءا من نفوسنا وقلوبنا وأصبحنا نعيشها على مدار النهار والليل، فى الإفطار نحن على مائدة عبدالحليم بعدها فى ستوديوهات الإذاعة حتى السحور، عندما تعود إلى بيت عبدالحليم أو إلى بيتى فى الصباح صيام وعمل منفرد على الإفطار نتجمع من جديد! كانت أيام ورحم الله العندليب ومحمود عوض!