الإثنين 9 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
العالم السرى ليوسف السباعى الإنسان والأديب!

حكايات صحفية

العالم السرى ليوسف السباعى الإنسان والأديب!

كان الأستاذ والأديب الكبير «يوسف السباعى» يشغل منصب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة عندما حاوره الدكتور غالى شكرى، وكان السؤال الذى يشغل باله كيف يجمع يوسف السباعى بين الكاتب والمدير فى وقت واحد، فقد كان السباعى يشغل مناصب عدة منها: السكرتير العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب، والمكتب الدائم للأدباء العرب، والمكتب الدائم لكتاب آسيا وإفريقيا، ومؤتمر التضامن وجمعية الأدباء ونادى القصة.



 

ويقول د.غالى شكرى إن يوسف السباعى مسح بعينيه أرجاء الغرفة التى يحتلها مكتبه فى مبنى نادى القصة وارتكز بمرفقيه على كراسة صغيرة أمامه وقال له:

أعتقد أن هناك طبيعتين فى شخص الفنان والإدارى المسئول، وكثيرا ما يفاجأ بعض العاملين معى بأننى إدارى حازم، وإن كنت لا أصل فى حزمى إلى الدرجة القصوى باستثناء حالات نادرة تضطرنى لليأس منها، وأعتقد أن لدى إحساسًا حادًا بقيمة الزمن ويمكنك أن تأخذ هذا الجدول التقريبى فى توزيع وقتى:

 

 

 

1 - أخرج من البيت الساعة الثامنة صباحًا فأتجه إلى نادى القصة حيث أبقى فيه إلى التاسعة والنصف.

2 - ثم أتوجه إلى المجلس الأعلى من الساعة العاشرة إلى الثانية عشرة.

3 - وأخص «مجلة آخر ساعة» بأطول فترة من الوقت، فأقضى فيها من الساعة الواحدة إلى الرابعة بعد الظهر، ومن السادسة والنصف إلى العاشرة.

4 - وبالطبع أتناول غذائى فى البيت بعد الرابعة وأظل مع أولادى إلى السادسة، حيث لا أنام ظهرا، وإن كنت أخذ إغفاءة قصيرة لمدة عشر دقائق ثم أعود إلى البيت فى العاشرة والنصف واستسلم للنوم فى الحادية عشرة والنصف أو الثانية عشرة على الأكثر.

5 - وهناك يومان فى الأسبوع هما السبت والثلاثاء أقضى الصباح منهما فى سكرتارية مؤتمر التضامن.

6 - كما أقضى بعد ظهر الخميس وطيلة يوم الجمعة فى المنزل باستثناء بضع ساعات ظهر يوم الجمعة فى «آخر ساعة».

ويعلق د.غالى شكرى على هذا الانضباط الشديد ليوسف السباعى فيقول:

 

 

 

«وهالنى أن يسير إنسان بهذه الصورة الميكانيكية وفق جدول حسابى دقيق، وكأنى اكتشفت ثغرة خطيرة، لم ينتبه لها يوسف السباعى فقلت له:

ومتى تكتب إذن؟!

وأمسك - السباعى - لا شعوريًا بقلم يرقد أمامه ساكنًا فى المحبرة وأجاب:

- فيما مضى كنت أختفى فى نادى القصة ست ساعات فى الأسبوع أكتب خلالها كل ما أريد، أما الآن فقد تعذرت الكتابة!

وقاطعه د.غالى: دعنا من كتابة القصص، أنت تكتب لآخر ساعة مثلا؟!

ولم يرتج عليه القول: نعم أنا أكتب ما يخصنى من مواد آخر ساعة من الساعة الثالثة إلى الساعة التاسعة صباحًا مرة واحدة فى الأسبوع، وأكرس صباح الجمعة لما يعن لى أحيانًا من كتابات فى الرواية أو القصة القصيرة، إن ما أحتاج إليه هو العزلة ويكفينى من الوقت أقل القليل.

ويكمل د.غالى شكرى كلامه: وحان الوقت لأن ندخل من بوابة طموح «يوسف السباعى» الأدب، ورأيت أن نبدأ من جديد بما يسوقه الكثيرون من اتهام لهذا الرجل: لماذا لم يتطور؟!

 

 

 

ولم يبد على وجهه أننى فاجأته بالسؤال، بل إنه لم ينفعل بما يفيد أنه يعترض.. وبهدوء شديد راح يجيب:

- يصعب عليّ تبيان حقيقة هذا الاتهام. فربما كان هذا أو ذاك من النقاد لم يقرأ كل أعمالى، وربما كنت لم أتطور فعلا، وإذا كنت أشك أن هناك من تابع تطورى بانتظام إلا أننى لا أشك فى أن هناك غيرى يتطورون، وهذا حسن، فلعلنى مجرد نقطة تشكل مع جيلى إحدى مراحل التطور، وليس مطلوبًا فيما أعتقد أن نمثل دائمًا جميع ما يطرأ على مسارنا الأدبى من تطورات.. وهناك ظواهر لا أعدها تطورًا ولن أقدم عليها لأننى كونت مفهومًا معينًا عن الفهم، سواء كان صائبًا أو مخطئًا لا أستطيع التخلى عنه هو أن الكاتب لا بد وأن يكون مفهومًا لدى جميع الناس.

لقد طالعت بعض إنتاج الشبان الجدد ولاحظت أنهم يكتبون تعبيرات لا معنى لها، هى أوهام باطنية فى داخلهم ليست بينها وبين الناس أية وشائج ولا يمكن أن تعبر عن حالة طبيعية من الوعى، إنهم يتكلمون عن شخصيات مجنونة بلسان مجنون، فما ينتجونه هو أدب مجانين أو مخدّرين لأن الحياة بطبيعتها مفهومة وواضحة، ولا ينتج «غير المفهوم» إلا عن مجنون أو مخدر أو خيالات واع بما هو خارج عن نطاق المعرفة وإمكانياتها البشرية.

ولا شك أن جيلى نقل الأسلوب من شكل إلى آخر، بلا غرور أعتقد أن جيلى قد وضع المعالم الواضحة للقصة العربية المعاصرة، وضع الطابق الأساسى فى بناء الرواية، هو جيل النهضة بحق.

وقبل أن أودع «يوسف السباعى» - الكلام على لسان غالى شكرى - قلت له:

أريد أن أعرف رأيك فى ثلاثة «نجيب محفوظ» و«إحسان عبدالقدوس» و«عبدالحليم عبدالله» وضحك طويلا كمن شعر بالراحة عند سماعه هذه الأسماء قال:

- كلهم فنانون موهوبون أصلاء، «نجيب محفوظ» كتاباته لها جاذبية خارقة قادرة على أن تشد القارئ إلى الصفحة الأخيرة وتؤثر فيه أعمق التأثير، وهذا ما يعطى القيمة الحقيقية لنجيب محفوظ، ولك أنت كناقد أن تحكم ما إذا كان ذلك من دقة تعبيره أم من قدرته على التقاط حقائق الواقع الكبير سواء فى الزمان أو المكان أو الشعور، «نجيب» يعبر عن حياته بصدق، آخذ على «نجيب» فقط - وما قد يكون هو به مفاخرًا، هو إننى لا أجد شخصيته فيما يكتب إننى لا أشعر أن له رأيًا إيجابيًا فى شيء، وكأنه إنسان يقدم لك طبقا لتذوقه دون أن يقول لك شيئا، وتلك هى طبيعة نجيب الإنسان، فهو لا يتخذ موقفًا من شيء ربما لفرط رقته ومسالمته، أما أنه يعبر عن الطبقات الشعبية كما صورت لى ذلك ذات يوم، فأنا أعتقد أن مجرد أمانة «نجيب محفوظ» فى الانفعال والتعبير ودقته فى تصوير مجتمعه ثم نشأته فى المجتمع المصرى الحقيقى هو الذى أعطاه هذا الرصيد من الشعبية، ولو أن نجيب محفوظ قد ولد فى «جاردن سيتى» لعبر عن مجتمع جاردن سيتى، من أعمال نجيب محفوظ الجديدة قرأت «أولاد حارتنا» وهو عمل ممتاز أخذ جهدا ضخمًا منه، وهو أول عمل يحدد فيه موقفه بصراحة من الدنيا التى نعيشها وإن لزم الشكل التقليدى الذى لا يملك سواه، وأنا أسمع عن أعماله التالية إنها غير مفهومة، وأعتقد أن القارئ الذى تابعه فى «خان الخليلى» و«زقاق المدق» كزوجتى وابنتى - وليس النقاد الفلاسفة أمثالكم - لا يستطيع هذا القارئ البسيط أن يتابع الأعمال الجديدة ويرى فيها انحرافًا عن جوهر «نجيب محفوظ»، ولقد مر «نجيب محفوظ» بمرحلة تقييم مبالغ فيها من جانب بعض الذين استفادوا من هذا التقييم، وعندما يقول التاريخ كلمته سيرجح أعمال نجيب الأولى، وأعتقد أن الناس الذين تعمدوا المغالاة فى تقديره صمتوا الآن، كما أعتقد أن «نجيب محفوظ»من الذكاء بحيث أنه قادر على فهم نفسه أكثر بكثير مما يفهمه الآخرون.

إحسان «فنان حقيقى قادر على أن يجذب القارئ لأى شيء يكتبه، ولولا ارتباطه بالكتابة الأدبية للصحافة والاهتمام بانعكاس ما يكتبه على التوزيع لكان لأدبه تقييمًا أفضل من هذا لدى النقاد، لقد كتب أشياء لا أعتقد أنه كان يكتبها بمعزل عن هذه الظروف، وإحسان بعد ذلك يكتب بإخلاص عن مجتمع قائم بالفعل وكانت لديه الشجاعة الكافية لأن يعرى هذا المجتمع ويكشف أوضاعه بالرغم من كثرة الذين ينكرون وجوده أصلًا، وبالتالى ادعاؤهم إن «إحسان» يفتعل وجود هذا المجتمع، وأغرب ما فى الأمر بالنسبة لأدب إحسان أن ما كتبه من قصص الكفاح والنضال لا يريد أن يقيمه أحد من النقاد. عبدالحليم عبدالله.. فنان مرهف الحس لدرجة الشفافية وصادق فى تعبيره عن المجتمع، ولكن عيبه البسيط الذى قد لا يعتبر عيبًا هو كثرة التشبيهات والاستعارات التى تعوق القارئ المعاصر عن متابعة «روح» الكاتب.

 

 

 

وينهى د.غالى شكرى حواره المهم والممتع قائلًا: قال لى يوسف السباعى وأنا أطوى ما أمامى من أوراق: أرجو أن أكون قد وضعت كل النقط على كل الحروف، ترى هل فعل؟!

وهكذا تساءل د.غالى شكرى!

الحوار والإجابة درس فى فن الكتابة الممتعة والرائعة!