الإثنين 4 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
سندباد مصرى اسمه حسين فوزى!

حكايات صحفية

سندباد مصرى اسمه حسين فوزى!

فى مكتب الدكتور يوسف إدريس بالأهرام رأيت الدكتور «حسين فوزى» لأول مرة والذى كان مشهورا بلقب «السندباد المصرى» وهو مؤلف عدة كتب بهذا الاسم، ومن بينها كتابه الأشهر «سندباد مصرى جولات فى رحاب التاريخ» (400 صفحة).



يومها وبعد أن انصرف د.حسين فوزى من عنده نصحنى يوسف إدريس بقراءة مؤلفات د.حسين فوزى ووصفها بأنها قصيدة عشق فى حب مصر والوطن.

استكملت حوارى مع د.يوسف إدريس والذى نشر على حلقات فى مجلة «صباح الخير» ومضت السنوات ورحل يوسف إدريس ومن قبله د.حسين فوزى.. وفجأة وجدتنى أعود إلى الاستمتاع بقراءة كتاب د.حسين فوزى.

إن أول ما يلفت نظرك فى الكتاب هو تواضع د.حسين فوزى الذى تولى عشرات المناصب والمهام العلمية عميدا لكلية العلوم جامعة الإسكندرية ثم مديراً لها لعام 1954 ورئيسا للمجمع العلمى المصرى سنة 1968 بل هو الذى أنشأ البرنامج الثانى بالإذاعة، و..و.

تواضع د.حسين فوزى يبدو من قوله فى مقدمة كتابه:

«لا فضل لى فى هذا الكتاب إلا أن رسمت خطته، ونظمت فصوله تبعا لانفعالاتى الشخصية بتاريخ بلادى، وتركيز فكرى فترات طويلة فى أحقاب هذا التاريخ الذى عشت فى طفولتى نهاية حقبة منه.. كتابى صور من ملحمة هذا الشعب الذى أفخر بأننى واحد من آحاده، لست مؤرخاً لا بالفكر ولا بالمهنة وإن كنت غير مجرد تماما من الإحساس بالتاريخ.

اعتمدت فى كتابته على الخلجات الروحية، وعلى ما طالعت من كتب الأولين والآخرين فى تاريخ بلادى، وعلى القليل الذى عشته من ذلك التاريخ بلحمى ودمى وتفكيرى.

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

كتبته فى بحبوحة الأدب والفن، حرية فى الفكر وتحرر فى الأسلوب وتصرف فى نقل النصوص المصرية القديمة التى التزم العلماء فى ترجمتها التزامات لم أر أن أقيد نفسى بها، بعد أن لمست المفارقات فى ترجمة النص الواحد، مادمت محتفظاً بالروح والمعنى اللذين تبينتهما خلال اختلاف المترجمين، وفى صفحات غير قليلة استعرت نصوص المؤرخين المصريين فى القرون الوسطى وفى القرنين الماضيين وبخاصة نصوص «ابن اياس» فيما يتصل بالغزو العثمانى ونصوص «الجبرتى» فيما يتعلق بالمماليك والفرنسيين و«محمد على» منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر».

ويمضى د.حسين فوزى (مواليد 11 يوليو سنة 1900 بالإسكندرية) فيقول:

ولدت ومصر «إيالة» - ولاية - عثمانية أو ما كان يعرف فى الدجل السياسى باسم السيادة الاسمية لتركيا على مصر، وسمعت وأنا حدث خطباء مساجد القاهرة يدعون للسلطان «محمد رشاد» ولعبت الجمباز فى المدرسة الابتدائية على نداءات لغة لا أعرفها.

أدركت من شئون بلادى وبعض أمور العالم ما يدركه «غلام» عند إعلان الحرب العالمية الأولى، وعشت فى خضم ثورة 1919 طالباً وراقبت أعقابها بعقل شباب المدارس العليا، حتى غادرت البلاد عام 1925 لأتابع تعليمى وغبت عنها خمس سنوات، عشت أثناءها مع أهل الغرب بعقلية أوروبية وقلب مصرى، وعودتنى حياتى العلمية فى مصر والخارج ألا أصدر حكماً قبل أن أتبين الأمور بكل ملابساتها، وعرفت أن الحقيقة فى مسائل الرأى بعيدة المنال على العكس من بعض المسائل العلمية التى تقوم على قوانين الطبيعة، كالبديهيات الرياضية، أو المؤسسة على الفحص المباشر وتسجيل الملاحظات.

واجتزت الحرب العالمية الثانية فى وعى كامل لأهدافها القريبة والبعيدة على الرغم من أكاذيب المتحاربين، وصراع المذاهب السياسية التى عرفتها فيما بين الحربين، فقد درجت أيام التحصيل بأوروبا على أن أطالع فى صحف المساء «رأيا» ينقض ما طالعت فى صحف الصباح، فلا أميل يمنة أو يسرة، ودربت نفسى على فهم موضوعى لا بأس به لأهل اليمين وأهل اليسار، بفضل تلك المتابعة اليومية لصراع الأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى أوروبا، وقد أعدنى ذلك بعد عودتى إلى بلادى للحياة فوق المعترك السياسى لا فى غماره، لا سيما أن دورى فى الكفاح كان ميدانه العلم وتطبيقاته.

أؤمن بوطنى وشعب بلادى المؤلف من ملايين المحرومين من الصحة ومن التعليم ومن الرفاهية الجثمانية والعقلية، لذلك كانت من أسعد اللحظات التاريخية التى عرفتها فى حياتى، لحظة أبلغت تليفونيا من القاهرة وأنا فى الإسكندرية، خبر قيام الضباط الأحرار بثورة 23 يولية 1952، وأحسست فيما يشبه الإلهام بأن فجراً جديداً صحيحاً لا كاذباً قد طلع فى أفق التاريخ المصرى، وربما كان ذلك الفجر هو الذى أنار لى طريقى إلى تأليف هذا الكتاب الذى لم يكن فى الإمكان كتابته قبل قيام هذه الثورة».

 

حسين فوزى
حسين فوزى

 

 

والحق أنى منذ زمان طويل أطمع فى وضع كتاب على هامش التاريخ، أصور فيه الحياة المصرية منذ نشأتها صورة صادقة لما اختلجت به نفسى منذ تيقظ فىّ الشعور والإدراك.

وأمضى مع المقدمة المهمة والممتعة لكتاب «د.حسين فوزى» حيث يكمل:

«ليس من قبيل افتعال التواضع إذن أن أقول فى أول مقدمتى بألا فضل لى فى وضع هذا الكتاب، ولنزعم فى شىء من السخرية بأنفسنا أن دورنا فيه كان أشبه بدور «المخرج السينمائى» الذى لا يكتب القصة ولا يستخلص السيناريو ولا يضع الحوار، ولا يصمم الديكور ولا يبنيه، ولا يعمل على أجهزة الإضاءة، ولا يمثل ولا يصور، إنما هو يستخدم كل ما تضعه حرفة السينما وصناعتها وفن رجالها ونسائها بين يديه من ممكنات، ليجمع ذلك فى صورة تتجلى فى ذهنه أولاً، وقد ينجح فى تنفيذ الصورة الذهنية وقد يخيب.

وهذا هو حظى نفسه فى كتابى: أن أكون قد وفقت، أو أكون قد أخفقت فى إخراج الصورة الذهنية الوجدانية التى طبعها فى نفسى تاريخ مصر كلها، كوحدة متكاملة، أو كما قلت فى ثنايا الكتاب، كرواية كبيرة ذات فصول بطلها الشعب المصرى لا كمجموعة قصص متصلة لكاتب واحد، أو لكُتاب عديدين.

كتاب أدبى محصن، أحاسب عليه فى حدود الأدب والفن، إلا أن واجبى نحو حقائق التاريخ اقتضانى أن أذيله بمجمل لتاريخ مصر، أرجو أن يلقى عليه القارئ نظرة سريعة قبل البدء بمطالعة الكتاب على أن يعود إليه كلما دعاه إلى ذلك داع، كما أن واجبى نحو الأمانة فى النقل وإرجاع الفضل لذويه - مع تجنب الهوامش - فرض علىّ أن أضع ثبتاً بالكتب التى طالعتها إعداداً للكتاب.

ومن الملاحظات المهمة التى يذكرها د.حسين فوزى وهى بمثابة درس ونصيحة لكل من يتناول كتابة التاريخ وأحداثه قوله:

ولقد قدرت أن حرية التأليف الأدبى لا تلزمنى بمطالعة «كل» ما كتب فى تاريخ مصر، ولو كنت مؤرخا لكان من أولويات واجبى أن أدرسها عن بكرة أبيها، ولعل القارئ غير المختص لا يتصور ما وراء هذه الدراسة من جهد قد يستنفد   العمر كله، فالببليوجرافيا الكاملة لتاريخ مصر وحضاراتها فى اللغات الحية والميتة قد يضيق بها مجلد فى حجم هذا الكتاب، والتاريخ يعرف حدوده فهو ممنوع بحكم الدقة العلمية من أن يحاول مثل هذه المحاولة.

أما الأديب - وقد يقتنع القارئ بحجته أو لا يقتنع - مادمت أتحمل وحدى وزر عملى، فقد انتفع انتفاعاً كاملاً بحرية الفن والأدب، وكل ما أرجوه ألا أكون أسأت كثيراً إلى الحرية التى يمنحها الفكر المطلق.

أردت لهذا الكتاب أن يكون ملحمة للشعب المصرى، فإذا هو فى أكثر من موضع مرثية طويلة لما عاناه على مدى الأزمان، وإذا بى وأنا أؤكد قوة هذا الشعب على المقاومة والصراع والبقاء وأشير إلى ما أداه من خدمات للحضارة.

مصر لا تشرق بضع لحظات ثم تغيب فى ليل طويل، كما حدث فى بلاد أخرى بل العكس هو الصحيح، فإن من يُمن طالعها العجيب أراد لها أن تواصل عملها سبعين قرناً وأن تترك أثرها واضحاً جلياً».

هذا كتاب مهم وممتع إنه خلاصة لتاريخ وطن وشعب وما أحوجنا إلى إعادة قراءته بوعى ويقظة لنقول بعدها: ارفع رأسك فوق أنت مصرى.

لكن كتاب «سندباد فى رحلة الحياة» للدكتور «حسين فوزى» ذكريات لا تنسى ودرس فى الصدق الإنسانى وفن الكتابة.

وللحكاية بقية!