الجمعة 18 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
اسمح لى أسألك أستاذ نزار؟!

مفيد فوزى محاورا صحفيا:

اسمح لى أسألك أستاذ نزار؟!

«لو لم أكن محررًا فى «صباح الخير».. لتمينت أن أكون محررًا فى صباح الخير»، هذه ليست مجلة، لكنها بيت وعيلة وأصدقاء وإخوة ونجوم صحافة وفكر وأدب، وحكايات وذكريات طالت وامتدت على مدار ست وأربعين سنة من 1976 - من القرن الماضى - وحتى الآن!



فى صباح الخير بدأت حياتى المهنية صحفيًا صغيرًا وسط العمالقة، ثم سكرتيرًا للتحرير فى زمن الرائع لويس جريس، رئيس التحرير، ثم مديرًا للتحرير فى زمن مفيد فوزى وطوال خمس سنوات.

 

وعن قرب وبشكل يكاد يكون يوميًا أكاد أكون عرفته والأهم أنه كان يعتبرنى بمثابة ذراعه اليمنى، وهو أول من وصفنى بعبارة «جبرتى روزاليوسف»، عندما لاحظ اهتمامى بالتاريخ قراءة وكتابة خاصة عن كل ما يتعلق بروزاليوسف السيدة والمجلة وكل مطبوعاتها.

منه وعنه تعلمت الكثير: الانضباط الشديد، الحفاوة بالكلمة الأنيقة، فن صياغة العنوان الجذاب، كيفية كتابة مقدمة لحوار تسرق انتباهك من أول لحظة، فتمضى فى قراءة الحوار مستمتعًا ومندهشًا وسعيدًا.

وسوف أقصر كلامى هنا على واحد من أهم وأجمل كتبه الذى صدر منذ 25 سنة وهو «نزار وأنا»: أطول قصيدة اعتراف»، وأسعدنى أن يهدينى الكتاب مذيلاً بإهداء رقيق قال فيه: «إلى رشاد كامل قائمقام صباح الخير، صاحب الرصيد من الكتاب وأحد عشاق الكلمة المخلصين المتزوج منها وله أولاد بعدد حروف ما كتب «مفيد فوزى».. يونيو 98.

هذا الكتاب بفصوله الثلاثة عشر درس فى الكتابة لمن يريد أن يفهم ويتعلم، كل حوار كان يسبقه مقدمة هى فى حد ذاتها تدفعك لقراءة الحوار وهى درس مهم لكل صحفى أو صحفية تريد أن تكون أو يكون «شىء ما» فى عالم الكلمة المكتوبة والمقروءة وليس دنيا الفيس بوك!

فى مقدمة حوار عنوانه «الرجل الشرقى لا يحبنى» يقول الأستاذ ناصحًا ومعلمًا ما يلى: نزار لمن يريد أن يتحاور معه بعدى، لا بد من فهم طبيعته وتكوينه وعاداته مع الصحفيين:

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

1 - لا بد من أن تكون معجبًا بالشاعر قارئًا لمعظم دواوينه إن لم تكن كلها!

2 - لا بد من أسئلة فى صياغتها ما «يفتح شهيته» للكلام بدلاً من أن تسد نفسه!

3 - لا مانع من «مداعبة غرور الشاعر بسؤال أو اثنين أو ثلاثة، ثم سؤال تصادمى وبعده سؤال استفزازى، فهذه الطريقة تجعله يقظًا فى ملعب المحاورة.

4 - يا سلام لو أوردت فى كلامك بعض مقاطع من قصائده، فهذا مدخل ذكى يفتح الخزانة.

5 - حين يصمت الشاعر برهة لا تقاطعه على طريقة مذيعات التليفزيون المبتدئات، اتركه يسرح، إنه يجوب فى ثوان ذاكرته، ينادى التجارب فتطيعه وتأتى بعد قليل».

ويضيف مفيد قائلاً: وأعود بهذه الأدوات للحلبة.

وفى مقدمة حوار آخر عنوانه «العقوبة الأكبر» يكشف عن طريقته المفضلة فى حواراته بشكل عام فيقول: بأسئلة محددة لا غموض فيها أحاول أن أقرأ كف نزار قبانى، ولست من هواة الغوص فى المجهول ولا أحب أن يقرأ أحد كفى، ولا يقرأ فنجانى ولم أفتح المندل يومًا ما! ولكنى أعترف أنى أدمن قراءة كف المشاهير بنوعية من الأسئلة تنفذ من المسام وتقتلع الإجابات من الصدور، وفى بعض الأحيان أكتشف أن الجرح - أى جرح فى الشخصية ربما مازال رغم السنين أخضر، ونزار قبانى شاعر بسيط إلى حد التعقيد، ومعقد إلى درجة البساطة، والسؤال عند نزار يغريه بالبوح!

هناك أسئلة تضرب على أوتار الأعصاب العارية، وهناك أسئلة تغلق المسام المفتوحة المستعدة لأحلى صدام بين شاعر ومحاور.

وفى مقدمة حوار آخر يعترف الأستاذ مفيد فوزى قائلا: لم أتفزلك فى الإبحار بالأسئلة فى محيط الشاعر «نزار قبانى» كان السؤال بسيطًا ومباشرًا، فإذا تضمن «معلومة» يكون أفضل، أسئلتى لم تكن سوى دقات مهذبة على خزانة الشاعر الكبير.

أسئلتى كانت محاولة لمعرفة «الأرقام السرية» لهذه الخزانة المزدحمة بالمعلومات والحكايات والتأملات: أسئلتى كان هدفها تحريض نزار على البوح من الألف إلى الياء!

ولا يفوت الأستاذ مفيد أن يبدى هذه الملاحظة الذكية: وحين جلس نزار ليتكلم لم يكن يدخن ولا كان يسرح ولم يفعل مثل بعض الكتاب الذين يضعون قبضة يدهم على خدهم مثلما كان يفعل أمير الشعراء «أحمد شوقى» كانت الآراء تنساب فى تسلسل مذهل وكأنها كانت محبوسة فى صدره تنتظر «لحظة الإفراج» فأفرج عنها!

ومازلت مع مقدمات المحاور وشاعره ولنقرأ معًا هذه السطور عن «الفرق بين السياسى والشاعر» فتقول سطور الأستاذ مفيد: الشاعر أخلد من السياسى، لأن الفن أبقى من السياسة، وعندما أحاور رجل سياسة أرتدى مثله أقنعة، لأنى أعرف أنى أدخل فى مباراة من يكسب فيها ذلك الذى يحمل وجه مقامر، وجهًا باردًا خاليًا من أى انفعال، أما الشاعر حين أحاوره فأخلع كل الأقنعة، وأشعر أننا نجلس فوق ربوة على كتف نهر».

 

مفيد فوزى مع نزار قبانى
مفيد فوزى مع نزار قبانى

 

وفى إحدى مقدمات الحوار يعترف الأستاذ «مفيد» قائلا: أنا من عشاق نثر «نزار قبانى» وأشعر أن نثره فيه الكثير من نبرة الشعر، وحين يجيب نزار عن سؤال ويجلس ليمسك القلم وأمامه الأوراق يحس أن فكرة قصيدة جديدة تغازله، ولكنه ينتبه إنه مطالب بالإجابة عن سؤال يمس أوتار أعصابه العارية فيرد وبخطه الجميل يسجل بيتًا».

نزار قبانى مولود ليكون شاعرًا، لا يستطيع التنفس إلا من خلال قصيدة تغازله، فيستجيب لها فوق الورق، وحين ينتهى من ميلادها، تنتشى كل مسامه بالحب، لا شىء فى الوجود يمنح نزار السعادة والنشوة والرضا غير كتابة الشعر، إن الحروف تطاوعه بيسر لا مثيل له، والكلمات يأمرها بأن تتشكل كما يريد، فتلبى صاغرة. إنه نحات من نوع نادر ولهذا أسميه الشاعر النحات، ولهذا يغار منه الشعراء، ولهذا فهو الأكثر مبيعًا للدواوين والأكثر شهرة، ونزار اشتغل دبلوماسيًا فترة، ولكن الدبلوماسية ثقيلة على قلبه، صحيح إنه يعتبرها فترة من حياته، ولكن أثرها ليس غائرًا فى نفسه كالشعر»!

وعندما يسأله مفيد: التمثيل الدبلوماسى تمثيلية لم يكن نزار يتقنها كيف أمكن أن تستمر في لعب دورك 21 سنة؟!

ويجيب نزار: تحملت الدبلوماسية 21 عامًا على مضض، كما تتحمل المرأة غلاظة زوج لا يناسبها من أجل خاطر «الأولاد» فقط! والأولاد الذين أقصدهم من كلامى هم «قصائدى» لأننى خفت فى حالة طلاقى من الدبلوماسية أن يضيع الأولاد وأن يتشردوا بينى وبين أمهم»!

فى كل حوار يجريه الأستاذ «مفيد» سواء كان مكتوبًا أو مرئيًا يعشق الأسئلة القصيرة المستفزة التى تدهش ضيفه، ومن أمثلة ذلك فى حواره عندما سأل نزار فجأة: هل أرهقتك بالأسئلة؟

أجاب نزار: الأسئلة الذكية لا ترهقنى!

ويسأله بشكل غير متوقع: هل تعرضت لفكرة الموت فى قصائدك؟!

ويجيب: نعم كتبت عن الموت فى كل المراثىِ التى كتبتها لأبى ولولدى الراحل توفيق وللحبيبة الراحلة بلقيس، نجيب محفوظ قال لى لا أخاف الموت، ولكننى أخاف المرض، هذا صحيح لأن الموت يحسم الأمور، بينما المرض يتركها معلقة»!

عزيزى الأستاذ مفيد فوزى.

اسمح لى أشكرك على كل ما تعلمته منك كصحفى وكاتب مقال ومحاور من طراز فريد ورئيسا للتحرير.