الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الصحافة تجربة وموهبة ومعاناة!

محمد زكى عبدالقادر يكتب:

الصحافة تجربة وموهبة ومعاناة!

عندما انتهى الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» من تأليف كتابه «هذه هى صحافتنا بين الأمس واليوم» خطر بباله أن يشاركه عدد من قادة الفكر والرأى فى كتابة آراءهم فى هذا الموضوع لينشره مع كتابه، وبالفعل كان «د.طه حسين» أول من استجاب وكتب رأيه، ولم يكتف جلال الدين الحمامصى بذلك بل اتجه إلى الكاتب الكبير الأستاذ «محمد زكى عبدالقادر» ليفعل نفس الشىء!



 

ويقول جلال الحمامصى: «وفكرت فى أن زميلى الأستاذ «محمد زكى عبدالقادر» قد خبر الصحافة وعاش فيها وأنه اليوم - سنة 1956 - يتولى رئاسة تحرير جريدة مصرية كبرى، وكانت له مجلة أدبية محترمة هى «فصول» وقد يكون له بعض آراء تختلف مع رأيى يصح أن أقدمها للجيل الجديد، وبعثت بالكتاب إلى زميلى «زكى» فكتب رأيه، وهكذا يخرج هذا الكتاب للجيل الجديد، وليس فيه رأيى وحدى بل يقدمه أستاذ الجيل الحالى وينقده ويحلله زميل من رجال الصحافة الذين عاشوا لها وحدها».

جاءت مقدمة الأستاذ «محمد زكى عبدالقادر» تحت عنوان «الصحافة تجربة وموهبة ومعاناة» وقد بدأها كالآتى: طلب إليّ صديقى الأستاذ جلال الدين الحمامصى أن اقرأ كتابه وأقدم له، فشكرت له أن أتاح لى فرصة الحديث عن الصحافة وإلى الجيل الناشئ الراغب فى الاشتغال بها وقد كان من حظى أن ألقى بعض الدروس عن الصحافة فى معهد الصحافة بكلية الآداب وفى المعهد العالى لفن التمثيل، وأن اشترك فى امتحان القبول لدخول معهد الصحافة، وكثيرًا ما واجهنى شباب الطلاب بهذا السؤال:

هل الصحافة تجارة أم رسالة؟!.. وكثيرا ما لاحظت أن أمر الصحافة من حيث هى تجارة أو رسالة مضطرب فى أذهانهم شديد الاضطراب.

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

ويسترسل الأستاذ «زكى عبدالقادر» فيقول:

«والأستاذ جلال الدين الحمامصى» يتوجه فى كتابه بالحديث إلى الجيل الناشئ فهو يدرك جيدًا مدى ما نعلقه من أهمية على تهيئة جيل صالح لحمل الرسالة الصحفية يكون فى مقدوره أن ينجو بها من الأخطاء التى لم يستطع هذا الجيل أن ينقذها منها، والكتاب بعد ذلك حديث صريح فيه دراية وتجربة وفهم وإرشاد فهو ليس كتابًا أكاديميًا يقوم على النظريات، لكنه خلاصة تجربة عاناها صحفى جرت الصحافة فى دمه، وارتقى درجاتها حتى بلغ أعلاها، فهو جدير بأن يعرف عنها بالتجربة أكثر مما يعرف غيره ممن دخلت الصحافة فى حياته صدفة! أو رفعته ظروف سياسية أو غير سياسية إلى مركز من المراكز الصحفية المهمة أو غير المهمة!

والذين يشرفون على معهد الصحافة وقسم الصحافة بكلية الآداب أو يتولون التدريس فيها يشعرون بفقر المكتبة الصحفية المصرية فى الكتب التى تروى التجارب وتنبع من المعاناة الصحفية، فما من صحفى مصرى حريص على أن يسجل خواطره عن المهنة التى امتصت دمه، وعاشت فى قلبه كما تعيش العواطف العميقة، إرشادًا للجيل الناشئ أو من يأتون بعده، كلهم تقريبًا كتم ما كسب فى قلبه وعاش أو ذهب ومعه كنز لا غنى عنه!

والصحافة قبل كل شيء تجربة ومعاناة وموهبة، وإذا كانت قد أضحت فى السنوات الأخيرة مادة تدرس فى الجامعات والمعاهد، فسيظل أروع ما فيها هو ما ينبع من التجربة الشخصية، وتضطرب به نفوس سادتها وسدنتها وخدامها، وإذا كان الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» قد فتح الطريق بتسجيل تجاربه، فإنا لنرجو أن يفعل مثله غيره من الصحفيين، وأن يعنى هو فى وقت قريب آت بتسجيل ذكرياته عن الحياة الصحفية التى عاشها واتصالها بالمجتمع السياسى، فقد اقتصر فى كتابه على تصوير الصحافة كمهنة، ما عاناه فيها وما أحسه من نقص، وما هفت إليه نفسه من كمال، ونرجو لو اتبع ذلك بذكرياته السياسية والصحفية فيؤدى خدمة أخرى للجيل الناشئ، فما من صحفى إلا واتصل بالساسة وكبار الرجال وكشف فيهم عن نقط الضعف والقوة، وعرف فيهم أسباب الرفعة والنقص، إن تصوير الأشخاص  يصور الحياة التى يضطرب فيها عمل الصحفى، فهو عنصر مؤثر فى قدرته على أداء عمله كما يجب، وهى تجربة لازمة له كى يؤديه على النحو الذى يرضى ضميره.

ولعل الصحافة هى المهنة الوحيدة الأكثر اتصالا من غيرها بالمجتمع بكل طبقاته، ولعل الصحفى هو الوحيد بين كل أصحاب المهن الذى يتطلب عمله أن يكون على هذا الاتصال الدقيق، والصحفى الذى ينفصل عن مجتمعه لن يصلح لمهنته، وحينما أقول المجتمع أعنى كل عناصره، وفى أول هذه العناصر ومن أهمها سلطة الحكم والتوجيه والأدوات ذات النفوذ فى الدولة، لأنها أكثر من غيرها تأثيرًا فى الصحافة، فنظرتها إليها وتقديرها لمهمتها وحرصها أو عدم حرصها على التجاوب معها، كل أولئك يؤدى إلى تقرير وضع الصحافة من المجتمع والرأى العام.

 

جلال الحمامصي
جلال الحمامصي

 

أخلص من ذلك إلى أننى أرجو إلى الأستاذ «جلال الحمامصى» وإلى كل صحفى صحّت له تجارب أن يسجل هذه التجارب  والحوادث مع رسم الأشخاص الذين اتصلوا بها واتصلوا به فى صدق وأمانة، وهو بذلك لا يخدم الجيل الصحفى الناشئ فحسب، ولكنه يخدم أيضًا التاريخ السياسى للوطن، ويصور البيئة المصرية فى بعض جوانبها خلال فترة من فترات حياتها الطويلة.

ويمضى الأستاذ الكبير «محمد زكى عبدالقادر» فى مقدمته الممتعة والرائعة قائلًا: «وكان  الأستاذ الحمامصى صادقًا فى قوله إن الصحافة  المصرية تقدمت من حيث الفن الصحفى والإخراج والتبويب والتصوير، ولكنها ارتدت  إلى الوراء من حيث التوجيه والجدية، وهو بذلك يثير مسألة على أعظم جانب من الأهمية هى: هل من مهمة الصحافة أن تقود الرأى العام إلى ما تريد أو من مهمتها أن ترضى الرأى العام؟ وفى عبارة أخرى: هل من مهمة الصحافة أن تتحرى ما يرضى القراء فتقدمه  لهم -  حتى لو كان ضارًا - لأن فيه رواجها وسعة انتشارها، أم أن مهمتها الحقيقية أن تتحرى ما يتفق مع مصلحة المجتمع فتقدمه منصرفة عما لا يتفق مع هذه المصلحة، وإن أدى إلى التأثير فى رواجها وانتشارها!

والأستاذ جلال الحمامصى يقف مع الرأى الثانى وهو الذى أقف معه  وأؤيده تمام التأييد، ومن سوء الحظ أن الصحافة المصرية فى السنوات الأخيرة انساقت مع الرغبة فى إرضاء القراء وجذب اهتمامهم وضمان مداومتهم على قراءة الجريدة دون نظر إلى ما دون ذلك من اعتبارات، وقد أصبح  من الاتجاهات الغالبة فى الصحافة المصرية فى الوقت الحاضر الإسراف فى «المانشيتات» والعنوانات الضخمة المثيرة ونشر القصص والمحاكمات والجرائم فى إفاضة لا تخلو فى أكثر الأحيان من المبالغة وربما الخيال والتضخيم من الأخبار التافهة والتقليل من أهمية الأخبار المهمة فعلًا، لأنها ليست مثيرة للقارئ العادى، وإن كانت ذات أثر فى مستقبل البلاد أو فى مستقبل العالم وعدم العناية بالرأى ظنًا منهم أن القراء يضيقون  بالآراء ويؤثرون الأخبار المثيرة والأخبار الخفيفة وليس أبعد عن الحقيقة من هذا الظن!

ولست أريد بذلك، وما أحسب الأستاذ «الحمامصى» يريد أيضًا أن تمتنع الصحف عن نشر أخبار التسلية والأخبار الخفيفة المثيرة، ولكننا نريد أن نرد كل شىء إلى موضعه وأهميته، والأهمية هنا لا ترجع إلى عدد القراء الذين يهتمون بالخبر، ولكن إلى نوع القراء الذين يهتمون به بغض النظر عن عددهم، فالأخبار السياسية المتعلقة بمستقبل الوطن ومستقبل العالم، والأخبار الاقتصادية المتعلقة بالميزانية والبورصة والتجارة والمال والأخبار الاجتماعية التى تدل على اتجاهات جديدة فى علاج أمراض المجتمع، وغير ذلك من الأخبار التى تشبهها وتسير على نمطها، قد لا تكون مغرية للعدد الأكبر من القراء، ولكنها مهمة ومغرية لعدد أقل من القراء، هم أصحاب التوجيه والرأى والقدرة على التنفيذ، هذه الأخبار لا يجب أبدًا أن تخلى مكانها الطبيعى لأخبار أخرى كطلاق ممثلة أو قصة حب وزواج أو جريمة قتل! هذه وتلك يجب أن تنشر، ولكن لهذه مكانها الأول فى الاعتبار، ولتلك مكانها العادى فى الصفحات المخصصة لها.

ولا خوف أن تفقد الجريدة أحدًا من قرائها، فإن كل قارئ سيجد ما يعنيه فى المكان المخصص له، ثم إن إبراز الأخبار المهمة فى مكانها المعهود دون أن تزاحمها الأخبار التافهة أو المثير، يضيفى على الجريدة صفة الجدية دون أن يجردها فى الوقت نفسه من صفة التشويق والإثارة، فضلًا عن أن إبراز الأخبار السياسية والاقتصادية والعلمية  والاجتماعية المهمة سيحمل القارئ العادى شيئا فشيئًا على العناية بها والارتفاع بمستوى اهتمامه من الخبر الصغير إلى الخبر الكبير، ونعنى بالخبر الصغير حيز اهتمامه الشخصى الغريزى، ونعنى بالخبر الكبير اهتمامه بشئون الوطن  وشئون العالم  العليا، وهو ما يجعله أكثر جدية وأكثر فهمًا للحياة وتقديرًا للصحيفة ذاتها.

ويكمل الأستاذ «محمد زكى عبدالقادر» قائلًا: «وفى كل إنسان نزعة إلى الظهور بمظهر المعرفة ونزعة أخرى إلى التقدم والارتفاع فى مقاييس المجتمع، وهو يرى أن المهتمين بالمسائل الجدية أكثر قدرة وثروة ونفوذًا واحترامًا، فلابد أن يحاول معرفة ما يعرفون حتى إذا جلس إليهم استطاع أن يجاريهم فيما يخوضون فيه من شئون جدية فالصحيفة  التى تحاول أن ترفعه إلى هذا المستوى تخدمه دون أن تصاب بضرر والصحيفة التى تحاول أن تنزل إلى مستواه سيحس مع الوقت أنها لا تخدمه ولا ترفع مستواه.

وعلى الصحف المصرية أن تتدبر هذا الذى نقول، فإن متابعة رغبة القارئ لا تقف عند حد، وهى على مرور  الزمن ستنتهى بالصحف إلى أن تصبح مجرد ورقات تافهة غير ذات تأثير جدى فى حياة المجتمع، وبذلك ينتفى أخطر سبب يبرر وجودها فتفقد نفوذها واحترامها وقدرتها على التوجيه!

ولعلنى أسرفت فى  الكلام على هذه الناحية، وأنا فى صدر التقديم لكتاب اغتبطت إذ قرأته بقلم صحفى اشتهر بالصراحة والاعتزاز بالرأى ونظافة اليد، ولكن شفيعى فى هذه الإفاضة أنه مس هذه  الناحية فى أكثر من موضع فى كتابه، وهى عندى أهم ما نرجو أن يتجه إليه الشباب الناشئ والراغبون فى الاشتغال بالصحافة.

والكتاب بعد هذا وذاك شيق كُتب بأسلوب سهل ممتع صادق، ليس فيه كلام نظرى ولكنه فيه تجربة عملية جاءت بعد الضنى والسهر، وليس أصدق من كلام كتبه صاحبه لأنه عاشه»!

وللذكريات بقية مع نجم آخر!