الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
جلال الحمامصى صحفى بارع ممتاز تتنافس عليه الصحف!

د. طه حسين يكتب:

جلال الحمامصى صحفى بارع ممتاز تتنافس عليه الصحف!

كان الأستاذ الكبير «جلال الدين الحمامصى» قد أمضى 25 سنة فى بلاط صاحبة الجلالة عندما قرر أن يكتب كتابه «هذه هى صحافتنا بين الأمس واليوم» بعد أن لاحظ أن الصحافة انصرفت عن الجدية وانطلقت فى إثارة القراء بشتى الوسائل، وخطر له أن يشترك معه فى وضع الكتاب بعض قادة الفكر والرأى، وكان د.طه حسين أول من استجاب لرغبته، بل قال له: سأقرأ الكتاب وسأضم رأيى إلى رأيك!



 

وهكذا صدر الكتاب خريف سنة 1956 وتحت عنوان «25 سنة فى الصحافة جيل وجيل» كتب الحمامصى يقول: منذ أكثر من ربع قرن بدأت عملى فى الصحافة، ومنذ أكثر من خمس عشرة سنة وأنا أحاول أن أكتب كتابًا عن الصحافة.. وهو ما أنجزه الحمامصى بالفعل!

مقدمة طه حسين رائعة تصلح لأن تكون محاضرة ودرسًا مهمًا لأى شاب أو شابة يحلم أن يكون صحفيًا أو صحفية، وفى هذه المقدمة يقول: «ما أكثر الأشياء التى تبتكرها الحضارة الإنسانية ثم لا تلبث أن تصبح ضرورة من الضرورات فى حياة الجماعات المتحضرة لا تستقيم الحياة بدونها، وأن الناس قد عاشوا وتحضروا وأترفوا فى حياتهم المتحضرة وعرفوا كثيرًا من ألوان النعيم قبل أن تبتكر هذه الأشياء، وقبل أن يعرف الناس منافعها ومضارها أحيانًا.

والصحافة إحدى هذه الأشياء التى ابتكرتها الحضارة الإنسانية ذات يوم على نحو ساذج يسير، ثم لم تكد تحس منافعها حتى أقبلت عليها فقوَّتها ونمّتها وأفنت فى تقويتها وتنميتها وتنويعها حتى أصبح الناس فى البيئات المتحضرة لا يعرفون كيف يستقبلون المساء من كل يوم إذا لم يجدوا صحيفة من الصحف تحقق لهم الصلة اليومية بينهم وبين الذين يشاركونهم فى الوطن والمصالح أو بينهم وبين الذين يشاركونهم فى الحياة الإنسانية بوجه عام.

 

 

 

إن د.طه حسين يكتب المقدمة وكأنه يلقى محاضرة ثقافية ويضيف:

«ويقال أن الرومان قد سبقوا إلى إنشاء الصحافة حين جعلوا فى بعض أطوار حياتهم ينثرون أنباء الأعمال اليومية لحكومتهم فى لوحات تعلق فى بعض الأماكن ويقرؤها الناس، وربما نقلوا صورًا منها ليقرؤوها حين يخلون إلى أنفسهم فى تمهل وتروية ولتقرأها بعض السيدات اللاتى لايستحببن السعى إلى حيث تعلق الأنباء.

ويقال كذلك إن القرون الوسطى نفسها فى أوروبا لم تهمل العناية بإعلان على نحو من الأنحاء ليعرفها الناس فى بعض المدن الكبرى ثم تعرف المطبعة ذات يوم ولا تكاد تشبع حتى تستغل فى إذاعة الأنباء.. وإذا الصحف لا تعلق مخطوطة ليزدحم الناس إلى شرائها وقراءتها، والمشاركة فى تحريرها حين أتاحت لهم حظوظهم من الثقافة هذه المشاركة.

وإذا الصحافة مؤثر خطير فى تقوية الحضارة وتحقيق الصلة بين المتباعدين من أهل المدينة الواحدة ومن أهل الوطن الواحد، ومن أهل الأقطار المتحضرة فى أطراف الأرض، بل هى مؤثر خطير أيضًا فى تحقيق الصلة بين العالم المتحضر والأقطار التى لم تصل إليها الحضارة بعد.

ولاتزال الصحافة تؤثر فى تقوية الحضارة وتتأثر بقوتها على مر الزمن حتى تصبح ضرورة من ضرورات الحياة العامة لا يجد الناس إلى الانصراف منها سبيلا، ومن الطبيعى أن تتنافس البلاد الأوروبية فى ادعاء السبق إلى ابتكار هذا المؤثر الخطير فى حضارة العصر الحديث، فيزعم كل بلد من بلاد أوروبا الغربية أن له السبق إلى إنشاء الصحف، وأن البلاد الأخرى قد قلدته وأخذت عنه، وواضح أن الشرق لا يشارك فى هذه المنافسة فهو لم يعرف المطبعة ولم يعرف الصحافة إلا بآخرة حين اتصلت الأسباب بينه وبين العالم الغربى فى أواخر القرن الثامن عشر، وهو لم يعن بالصحافة عناية ذات بال ولم يجعلها وسيلة من وسائل حياته العامة إلا بعد أن تقدم القرن التاسع عشر حتى بلغ ثلثيه أو كاد يبلغهما، ومع ذلك فالشرق العربى على قصر عهده بالصحافة قد أقبل عليها أشد الإقبال وعنى بها أعظم عناية وجعلها فى هذا القرن الذين يعيش فيه - القرن العشرين - ضرورة من ضرورات حياته تقوم عليها شئونه السياسية والاجتماعية، وقل إن شئت أن رقيه فى الحضارة بوجه عام لا سبيل إليه إلا إذا شاركت فيه الصحافة وأعانت عليه.

فليس غريبا أن يفتن الشباب بالصحافة ويغرى بالمشاركة فى تحريرها على أى نحو من الأنحاء.

وبعد هذه المقدمة أو المحاضرة الطويلة عن الصحافة من نشأتها إلى أهميتها وخطورتها فى الحياة الحديثة ينتقل د.طه حسين بالكلام عن كتاب الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» فيقول:

«وليس غريبًا أن يفتن الأستاذ «جلال الحمامصى» فى آخر عهده بالصبا وأول عهده بالشباب بأن يسهم فى تحرير الصحف وأن يكون له نوع من المشاركة فى هذا العمل الخطير الذى يرى الناس من حوله يتهالكون على الانتفاع به، ويقبلون على قراءته مصبحين وممسين، كما يقبلون على ما يقيم الحياة من الطعام والشراب وما يشبههما من مقومات الحياة المادية والعقلية جميعًا.

 

 

 

فهو كان تلميذًا فى المدارس الثانوية لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره حين أحس الكلف بالصحافة والطموح إلى أن يكون صحفيا، وحين قوى فى نفسه هذا الإحساس حتى سيطر عليه واستأثر بعقله وقلبه، ودفعه إلى ابتغاء الوسائل إلى الصحف لينشر فيها ما كان يحاول إنشاءه من القصص، وقد كان هذا الإحساس أقوى من رغبته ورغبة أسرته فى أن يطلب العلم حتى يظفر بإجازته ولكنه على ذلك اضطر إلى أن يلائم بين طلب الصحافة وطلب العلم حتى ظفر بما كان يريد لنفسه وبما كانت تريد له أسرته من الإجازات الجامعية ومن المشاركة فى تحرير الصحف بل من النجاح والتوفيق فى هذه المشاركة حتى قصر عليها جهوده كلها وأصبح صحفيًا بارعًا ممتازًا تتنافس فيه الصحف ويعرف له زملاؤه وقراؤه مكانته فى هذا الفن الخطير!

وهو قد أنفق فى الصحافة ربع قرن وتعرض أثناء ما أنفق فيها من وقت وجهد لتجارب كثيرة مختلفة منها ما أحب ومنها ما كره، وهو قد انتفع بهذه التجارب على كثرتها واختلافها، ولكنه لم يرد أن يؤثر نفسه بها ولا بمنافعها، وإنما أراد أن يهديها إلى هؤلاء الشباب الكثيرين الذين يتهافتون على الصحافة تهافت الفراش على النار، والذين يقرأون هذا الكتاب سينتهون من قراءته إلى أن تشبيه الصحافة بالنار لا مبالغة فيه ولا إسراف!

فالصحافة نار مضطرمة لايقدر على أن يصلى بها إلا الذين يهيئون لها أنفسهم ويسلكون إليها سبيلها ويعرفون كيف يصلونها دون أن تحرقهم أو تحيلهم رمادًا لا يغنون عن أنفسهم ولا عن غيرهم شيئا! فليست هى من اليسر بحيث يظن الشباب الطامحون إليها المتهافتون عليها وإنما هى فن من أعسر الفنون التى ينبغى أن يتهيأ له الآخذون فيه كأحسن ما يكون التهيؤ، والشاب الذى يريد أن يكون صحفيًا لن يكفيه أن يقرأ الصحف ويحاول تقليد ما ينشر فيها، ولن يكفيه أن يسمع ما يلقى من الدروس القيمة فى معهد الصحافة أو فى قسم الصحافة كما يقال الآن بل يجب أن يتعلم هذا الفن فى موطنه ويبدأ من حيث يجب الابتداء فيختلف إلى دار صحيفة من الصحف بالضبط كما يختلف إلى معهد الصحافة أو قسمها فيمضى فى هذه الدار بياض يومه أو سواد ليله أو كليهما أحيانًا لا ليسمع فحسب ولا ليكتب ولكن ليرى ويسمع ويسعى فيما يكلف إليه ويعمل ما يكلف عمله ويكتب آخر الأمر بعد الجهد الطويل والعناء الثقيل والصبر على المكاره التى لا يطيق أكثرها إلا الأقوياء المصممون!

ويضيف د.طه حسين مؤكدا: «وهذا الكتاب الصغير فى حجمه الكبير فى قيمته ونفعه، كتاب لا يستغنى عنه شاب من هؤلاء الذين يريدون أن يقفوا حياتهم على الصحافة، بل يجب أن يقرأه ويقرأه ويفهمه أدق الفهم ويسأل عن بعض مشكلاته إن عرضت له المشكلات أثناء قراءته، لا يسأل أستاذه الجامعى وإنما يسأل عنه الذين يصلون نار الصحافة ويصلونها منذ زمن طويل من أمثال مؤلف هذا الكتاب!

هذه هى سبيله إلى النجاح دون أن يمنعه ذلك من أن يطلب العلم ويظفر بإجازاته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالصحافة علم وعمل، وهى علم بالحياة أولا وبحقائقها ودقائقها وأسرارها ومشكلاتها وتهيؤ لاستقبال الأحداث، وتعمقها وفقه أسبابها ونتائجها!

ومؤلف هذا الكتاب يمهد للشباب سبيل هذا كله، وأنا مع ذلك أرى أن هذا الكتاب ليس إلا مدخلا إلى كتاب آخر يجب أن يكتبه الأستاذ «جلال الحمامصى» فهو لم يعرض فى كتابه هذا إلا الناحية الفنية الخالصة فى إعداد الصحيفة وإصدارها وهناك أشياء ليست أقل خطرًا من هذه الناحية العملية والناحية الإخبارية اللتين عرض لهما المؤلف، فليست الصحيفة أخبارا وتعليقًا على الأخبار وإعلانًا وتنظيمًا للإعلان فحسب، ولا ينبغى أن تكون الصحيفة كذلك، وإنما الصحيفة شيء آخر إلى جانب الأخبار والإعلان هى مصدر من مصادر الثقافة الشعبية أيضا، والثقافة على اختلاف فروعها فى حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقلية والشعورية أيضًا، وهذا كله يحتاج إلى درس ويحتاج إلى كتاب أضخم حجمًا من هذا الكتاب الذى وفق فيه المؤلف أحسن التوفيق، ومازلت أنتظر منه جزءه الثانى، وأرجو أن يوفق فيه كما وفق فى جزئه الأول، وهو مشكور أجمل الشكر على إيثاره للشباب بتجاربه ومنافعها وما بذل فى ذلك من جهد وما نال فى ذلك من «نجح» - يقصد نجاح!!

ولم يكتف الأستاذ جلال الحمامصى بمقدمة طه حسين بل كانت هناك مقدمة أخرى لا تقل أهمية!.

وللحكاية بقية!