الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
لماذا يحرم بعضهم ما أحل الله؟!

لماذا يحرم بعضهم ما أحل الله؟!

فى الفقه الإسلامى قاعدتان متناقضتان. واحدة تنص على أنه لا اجتهاد مع نص، وأخرى تقول جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. القاعدة الأولى فى حاجة لإعادة نظر. القاعدة الثانية أقوى.



جواز تغير الأحكام بتغير الزمان قاعدة أكثر مرونة، الإسلام دين مرن، دين صالح لكل زمان ومكان، معجزة القرآن أنه ثابت نصًا متغير المحتوى عملًا. 

النص ثابت.. لكن الأزمان متغيرة. ولأن ظروف المجتمعات متغيرة أيضًا فإن احتياجاتها الفقهية والتشريعية متغيرة هى الأخرى.

لو سلمنا بعدم جواز الاجتهاد مع النص.. فالمعنى إقرارنا بوقف الزمن على نص ثابت.. النتيجة ترك ما فى الإسلام من قدرة على المرونة واستيعاب المستحدثات، الامتناع عن التعامل مع آيات التشريع القرآنى رغم تغير الظروف فى حاجة ماسة لإعادة بحث وتقييم. 

(1)

التشريع القرآنى مرن.. لذلك صالح لكل زمان ومكان، آيات التشريع فى القرآن الكريم معللة، العبرة فيها بخصوص السبب لا بعموم النص، كلما جدت مستجدات، كلما أمكن للفقه تخريج أحكام شرعية جديدة من الآيات القديمة. فهم الصحابة هذا. فهموا أن التجديد روح الدين.. فطنوا إلى أن النص القرآنى قادر على استيعاب ما يستجد من مشاكل فى المجتمعات الإسلامية.

عمر بن الخطاب اجتهد مع النص، لسنا أحرص على الإسلام من الخلفاء الراشدين، أوقف عمر سهم «المؤلفة قلوبهم»، رغم صراحة النص وقطعية ثبوته، قال تعالى: (إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم). رأى عمر أن سبب منح المؤلفة قلوبهم مالا، اختلف فى عهده عن ظروف نزول الآية الكريمة فى حياة النبى، فهم عمر لمرونة النص منحه القوة والقدرة على تعطيل النص.. لما تغيرت الظروف.

نص القرآن الكريم على قطع اليد حدًا للسرقة. عاد عمر وعطل الحد عام المجاعة. قطع يد السارق قطعى الثبوت، قطعى الدلالة هو الآخر، لكن فهم عمر لروح الدين منحه القوة مرة أخرى لتوقيف العمل بالنص. على بن أبى طالب أضاف من جانبه لحدود الله. أقر عقوبة لشارب الخمر 80 جلدة. لم يرد للخمر حد فى القرآن. لكن بعد وفاة النبى استلزمت الظروف عقوبة شرعية. قاس على بن أبى طالب على حد قذف المحصنات. قال من شرب سكر ومن سكر هذى ومن هذى قد يقذف المحصنات الغافلات. أضاف على رضى الله عنه عقوبة اجتهادية للنص.. قياسًا على قاذف المحصنات.

اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم فى وجود النص. لو الاجتهاد لا يجوز مع النص.. لما اجتهدوا ولا استطاعوا. لو كان، لما كان للخلفاء الراشدين تلك القوة والقدرة.. ولا طرأت عليهم مجرد الفكرة فى التعامل مع النص مهما استجدت ظروف.

لا اجتهاد مع نص قاعدة وضعية ليست شرعية. يعنى وضعها بشر، ليست من عند الله. ما وضعه بشر ليس مقدسًا. ما هو ليس مقدسًا يسهل التعامل معه إيجابًا أو رفضًا. الاجتهاد لتخريج أحكام شرعية جديدة مع تغير الظروف هو سبب نشأة علم الفقه. لو كان النص كافيًا، لما نشأ الفقه، ولما احتاج المسلمون لمعرفة ظروف التنزيل.

الفقه فى اللغة هو «الفهم الجيد للشىء». احتاج المسلمون للفقه لمّا ظهرت إشكاليات شرعية لم يجد لها أحد حلولا فى النص أو فى السنة. لذلك لجأوا للفقه.

الفقه تجديد. التجديد يعنى استخلاص أحكام شرعية جديدة من نص قديم. إلغاء ملك اليمين فقه. آقر القرآن الكريم ملك اليمين بنص ثابت قطعى. كل خلفاء المسلمين كان لديهم إماء وسرارى. لمّا تطورت الأزمان ألغى الفقه ملك اليمين. لم يلغُ ملك اليمين بنص مع أنه ورد بنص. هى صورة أخرى من صور تعطيل النص مع تغير الظروف. اجتهد المسلمون الأوائل فى وجود نص.. لكن جاء مسلمون محدثون.. رفضوه.. ثم حرموه.

يا أيها النبى لما تحرم ما أحل الله لك؟

(2)

ليس فى اللغة العربية مترادفات، العربية شديدة الدقة، وحادة الوصف، مفهوم العقل فى اللغة.. نقيض مفهوم الفكر. 

كمسلمون، نحن فى حاجة إلى فكر. وكمسلمون، علينا مراجعة أنفسنا، فى الطريق لفكر إسلامى. الفكر إبداع، وفقه.

يقول العرب «عقل البعير».. يعنى ربطه، واحكم ربطه. العقل هو الربط.. وهو إحكام الإغلاق.. أما الفكر فهو العكس. 

والفقه نقيض الانغلاق. يقول العرب: فكر الشىء.. يعنى: تركه.. يعنى أطلقه لعنانه.. فلا يضيق عليه، ولا يحكم نطاقه. 

ولأن الإسلام دين فكر.. فهو دين حرية.. ودين تجديد.

ماذا يعنى تجديد الدين بينما القرآن واحد ثابت لا يتغير؟ هنا.. معجزة كتاب الله. المعجزة فى نص ثابت متغير المحتوى.

نزل الإسلام رحمة للعالمين.. على استمرار العالمين زمانًا ومكانًا.. مهما طال الزمان، ومهما تغيرت الأماكن.

والتغيير سنة الله فى كونه، وفى خلقه، وفى مجتمعاته، وفى أزمنته.. ولأن التغيير سنة، جعل الله نصوص آياته قادرة على استيعاب متغيرات الزمان والمكان.

كلما تغيرت الظروف، سمحت مرونة النص باستيعاب ما تغير. كلما تبدلت أحوال المسلمين، وجدوا فى آياته الشريفة معايير جديدة للتطبيق. وكلما استجدت مشكلاتهم، الاجتماعية والشرعية لاقوا فى كتاب الله.. وأحكامه منافذ مستحدثة.. ومزيدًا من المساحات لإعادة التأويل.

التجديد الشرعى مبدأ إسلامى. وأحكام الله فيها من المرونة ما فيها واضعًا فى الاعتبار التطور الزمني والتطور المكانى.. خروجًا بأحكام جديدة، بروح عصرية طلبتها المستجدات.

لا يمكن التعامل مع اجتهادات الفقه الدينى، بمنطق مشجعى كرة القدم لا يعرف الفقه المعادلات الصفرية.. لا يجوز التعاطى مع المسائل الفقهية بمنطق التعصب: إما أهلى أو زمالك. 

الفقه الإسلامى واسع، براحه يخرجه من دائرة إما أبيض.. وإما أسود.

لو اتفقنا أن الدين فكر.. والفكر تحرر دائم. ولو سلمنا أن العقل وفق مفهومه اللغوى، يعنى تضييقًا، وتسويرًا، وزرع أسلاك شائكة على الجانبين.. تجعل الطريق واحدًا.. والنهايات واحدة..فهنا لابد أن نسأل: كيف أنزل الله نصًا واحدًا، وجعله صالحًا لكل زمان ومكان؟

الإجابة واحدة: لأن مقصود الله فى دينه التغيير، والتنوع.. واستيعاب المستجدات.. لذلك.. لم يجعل الله أحكام آياته الكريمة، قصرًا على زمن، ولا وقفًا على عهد.

لو كانت الأحكام الربانية فى القرآن الكريم، حكرًا على زمان، ومقفولة على مكان، لما لجأ المسلمون الأوائل إلى ابتكار ما يعرف بعلوم القرآن، وعلوم التفسير.. ولا كانوا قد فتحوا الطريق للبحث فى ظروف التنزيل، ولما أصلوا علم الفقه، وطوروه، واعتمدوا عليه، وجعلوه «ترمومتر» حضاريًا.. يبتكر من الحلول، كلما أرادوا وكلما جَدَّت مشكلات.

الفقه فى اللغة هو «العلم المعتبر بالشىء». يقول العرب: فقه الشىء.. أى بحثه ودققه، وأحسن اختباره. 

والفقه الإسلامى فكر ليس عقلا، لو اتفقنا مرة ثانية، على أن العقل بمفهومه اللغوى.. ضد الفكر ونقيضه.

فى القرآن نوعان من الآيات. آيات العبادات وهى توقيفية.. وآيات المعاملات ونصوص الأحكام.. وتلك هى التي لابد أن تكون محل التجديد. 

ماذا يعنى توقيفية آيات العبادات؟

يعنى أنها الآيات التي يتوقف الفكر عندها بالتكليف. لذلك لا تخضع لتفسيرات ولا لاجتهادات شخصية فى التأويل. ولا يخضع العمل بآيات العبادات بالفهم.

الآيات التوقيفية هى التي تفرض على المسلم طقوسها، إيمانًَا وتسليمًا، دون معرفة أسبابها وعلاَّتها.

مثلا، لا يجوز لمسلم مكلف البحث فى السبب وراء كون صلاة الصبح ركعتين، ولا العلة فى أن صلاة المغرب ثلاث. لا يضير المسلم جهله بعلة التثليث فى صلاة المغرب، ولا ينفعه معرفة السبب من وراء الطواف حول الكعبة المشرفة سبعًا. 

تبقى آيات الأحكام.. وآيات الأحكام مختلفة من حيث الأثر على المجتمعات، ومن حيث إن أحكامها تخضع للتنوع والتجدد الظرفى والمكانى.

فإذا كانت آيات العبادات توقيفية، فإن آيات الأحكام وفق مفهومها، والغرض منها لابد أن تكون معللة. يعنى العبرة فيها بالسبب من الحكم، والعلة من ورائه. لذلك آيات الأحكام اجتهادية، يعنى هى أساس الاجتهاد، ومحله.. وهى محل الفقه أيضًا.

آيات الأحكام، هى آيات التشريع أو هى منطوق التشريعات فى كتاب الله. من رحمة الله بالمسلمين أن جعل التشريع القرآنى محل اجتهاد المسلمين.

معنى الاجتهاد فى التشريع، يعنى إعمال الفكر فى فهمه، طبقًا للظروف. فيجوز التعامل مع نصوص كتاب الله، فى الأحكام.. وفقًا للمستجدات.. وطبقًا للظروف.

لماذا آيات الأحكام اجتهادية؟.. لأن الأصل فى تشريعها صلاح المجتمع المسلم. من صفات المجتمعات التطور، والتغير.. لذلك جعل الفقه الإسلامى، التشريع الإسلامى قابلًا للتغيير والتطور.

فى فترة ما، لم يجز الفقه قراءة القرآن الكريم مقابل أجر أو نظير مال. لكن لما تغيرت الظروف، وفتح المسلمون بلادًا لا تتكلم العربية، أباح الفقه قراءة القرآن نظير مال، بغرض تشجيع هجرة القراء، وبهدف نشر آيات الله فى المجتمعات المفتوحة.

كان نوعًا من تغير الأحكام وفق تغير الزمان. 

وفى القرآن الكريم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى..)، وفقًا للآية الكريمة وبحكم نصها، كان مباحًا فى وقت ما شهادة الأقارب لبعضهم، والأزواج لبعضهم وعلى بعضهم. لكن مع تغير الأزمان، وتغير العصور، فسدت الذمم وبارت الضمائر.. فلم يجد الفقه إلا أن يوقف حكم الآية، أو يغير فيه.. فأبطل شهادة الفروع، والأصول.. وأبطل شهادة الزوجين أحدهما للآخر أو.. عليه. كان مجرد حلف اليمين، إشارة إلى صدق المؤمن.. شاهدًا على أبيه أو أمه أو أخيه. تغير الزمن، وقال المثل: «قالوا للحرامى احلف..».