الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ذكريات المهندس حسن فهمى أبو فرقة رضا

ذكريات المهندس حسن فهمى أبو فرقة رضا

هل شاهدت واستمتعت مثلى بمشاهدة أفلام «غرام فى الكرنك» و«إجازة نص السنة» التى قامت ببطولتها «فرقة رضا» فى سنوات مجدها الفنى، ومن منا لا يستمتع حتى الآن بأغانى الفنان «محمد العزبى» فى هذه الأفلام!



لقد كان ظهور فرقة «رضا» للرقص الشعبى حدثًا استثنائيًا فى تاريخ الفن المصرى سواء بعروضهم الراقصة المبهجة على خشبة المسرح أو شاشة السينما.

 

«فريدة فهمى» و«محمود رضا» وشقيقه «على رضا» والموسيقار «على إسماعيل» كانوا نجوم الفرقة ودخلوا كل بيت بعروضهم الرائعة. وكل هذا معروف وشائع ولكنك ربما لا تعرف أن فريدة فهمى هى ابنة المهندس «حسن فهمى» وهو صاحب عشرات المناصب المهمة والكتب العلمية، لكن أشهر كتبه على الإطلاق هو «عينى على الدنيا» - صدر عام 1976 - وهو ينتمى إلى أدب الرحلات ويحكى فيه عن البلاد التى زارتها فرقة رضا شرقًا وغربًا وكان مرافقًا لها.

الكتاب ممتع ورائع لكن أهم ما فيه كواليس إنشاء الفرقة، حيث يقول: «قٌدر لى أن ألج ميدان الفنون من الباب الخلفى وكنت فى ذلك مكرهًا لا بطلًا, ولدت فرقة رضا للفنون الشعبية فى منزلى وتألفت من ابنتى الكبرى «نديرة» وابنتى الصغرة «فريدة» ومحمود رضا زوج نديرة، و«على رضا» زوج «فريدة» وزوجتى خديجة وأنا، ولم نكن نقصد من هذا العمل سوى التعبير الفنى المطلق دون رغبة فى شىء من متاع الدنيا، ولكن كانت نعمة الله علينا، وقدر لنا وللفرقة كيان ومجد لم نكن نحلم بهما!

وهكذا كان نصيبى أن أصبح «أبا» لهذه الفرقة - بما انضم إليها من شباب وأفراد وأن أرافقها فى غالب رحلاتها الفنية فى العالم كله.. القارات الخمس!

يعرفنى الناس بأننى «أبوفريدة فهمى» بطلة فرقة رضا، راقصتها الأولى ويلقبنى الناس ومنهم طلبتى وأصدقائى والجمهور عامة «بابا حسن»، ولا أدرى من أين خرج هذا اللقب اللطيف الذى اعتز به، ولعله يشير إلى «أخوة» فريدة للناس، ففريدة كانت ابنتى فأصبحت الآن آباها!».

ويحكى المهندس «حسن فهمى» هذه الواقعة الطريفة البالغة الدلالة فيقول:

«ذات مرة منذ سنوات حدث أننى كنت فى حضرة أكبر شخصيات فى البلاد وانهال عليّ الشكر والثناء والتقدير لأنى أوجدت فى البلاد «فرقة رضا الراقصة» وكانت بداية للفنون الشعبية فى مصر وفى الشرق الأوسط، فأجبت شاكرًا وفى قرارة نفسى غُصة لأنى عملت فى ميدان الهندسة والعلم واللغة الكثير وخرجت آلافا من المهندسين وكتبت عددًا كبيرًا من الكتب بأسلوب علمى جاد رصين، ولى مدرسة فكرية جديدة فى التعليم وقمت بأبحاث علمية عديدة وساهمت فى منح عدد كبير جدًا من الدرجات العليا والماجستير والدكتوراه.. ولكنى لم أسمع ذكرًا أو أرى إشارة من قريب أو بعيد لهذه المنجزات التى قضيت فيها جل عمرى فأجبت مبتسمًا:

- يا ريتنى كنت عرفت كده من زمان.. كنت رقصتلكم البلد كلها!

وحكاية أخرى أكثر غرابة يرويها «حسن فهمى» قائلا: بدأنا العمل عام 1955 فى أوبريت «ليل يا عين» وكان الفضل الأعظم فى إنشاء ونجاح هذه الأوبريت للأستاذ الفاضل العظيم «يحيى حقى» الذى بذل جهودًا جبارة فى سبيل إنجاحها، وعملت «فريدة» فى ذلك الوقت راقصة فى الاستعراض وقام بالبطولة «محمود رضا» ودعانى مدير الجامعة ولامنى لومًا شديدًا على دخولى ميدان المسارح والرقص! وعرض ابنتى راقصة على المسرح!

وعبثًا حاولت توضيح الفرق بين رقص ورقص، وقال لى: أن أستاذًا مثلى، وهو أحد عُمد الجامعة مطلوب منه الاحتفاظ بمركز محترم! فطلبت منه! اقالتى إن أمكنه ذلك!

 

 

 

وانصرفت أكاد أنفجر غيظًا، ولولا مساندة الصحافة لى، والوعى الفنى عند المثقفين فى البلاد لفقدت منصبى فى الجامعة!

ويكمل المهندس «حسن فهمى» ذكرياته الممتعة فيقول: «أرى لزامًا على تصحيحًا لما عساه يخطر على البال من أن نجاح فرقة رضا أو نجاح «فريدة فهمى» كان مجرد حظ أو خبطة عشواء، إن هذا كان حصيلة عمل مجهد متواصل، ودراسة علمية مؤهلة، مسندة ومدعمة بالبحث والدراسة، ولم تكن المجموعة التى أسست فرقة رضا مجرد أفراد جمعتهم القرابة فحسب، فمحمود رضا تخرج فى كلية التجارة جامعة القاهرة ومارس فن الرقص والباليه سنوات عديدة، ثم أتم دراسته الفنية فى باريس، و«نديرة» ابنتى الكبرى رحمها الله - تخرجت فى كلية الفنون الجميلة وكانت نابغة موهوبة وفريدة ابنتى الصغرى تخرجت فى كلية الآداب جامعة القاهرة وتستعد لنيل درجة الدكتوراه فى الأدب، هذا غير دراستها وممارستها لفنون الباليه من سن السادسة، غير موهبتها الموسيقية، وزوجها «على رضا» شقيق محمود رضا مخرج سينمائى له إنجازات مرموقة فى هذا الميدان، وخديجة زوجتى مثقفة تثقيفًا عاليًا فى الفنون والموسيقى وتصميم الأزياء.

وأنا أستاذ التنظيم الصناعى والإدارة وانضم إلينا فقيد الفن والموسيقى والبلاد المرحوم الموسيقار «على إسماعيل» الذى تبنيته، وهكذا استكملت الباقة الفنية المتكاملة إنسانيًا وعائليًا وفنيًا، وأصبحت مثالًا يقتدى به فى النظام والأداء والمحبة والترابط والانسجام.. وبطبيعة الحال كان العمل فى الفرقة طبقا للنهج العلمى المؤصل فى جميع عناصر الأداء الفنى!

وفى سطور بالغة الحب والامتنان عن الموسيقار العبقرى «على إسماعيل» يقول:

لموسيقى المرحوم «على إسماعيل» طابع خاص ساحر، يتغلغل فى الأعماق لأنه فنان أصيل من الشعب وللشعب وفى الشعب، فهو يمثل الشعب فنًا وروحًا وطيبة ورجولة وأمانة.. عرفت هذا الرجل منذ أكثر من خمسة عشرة عاما ولم ألحظ عليه مرة واحدة غير ذكاء وقاد.. وأمانة فى الأداء وحب وإخلاص لإخوانه، فكان لى أيضا ابنًا لا يقل عن باقى أولادى «فريدة ومحمود وعلى» وعلى إسماعيل أخوهم فى الحب والإخلاص وتربط هذه الباقة زوجتى التى أحبت الجميع حبًا جمًا ثم أنا واعتبر الجميع عائلتى ومن دمى ومن روحى. لهذا ستبقى فرقة رضا دائمًا لأن قوامها الحب ودمها الفن.. هم يعيشون فى معبد الفن منه وله وفيه ومن أحسن ما سمعت ما قاله الأستاذ الدكتور «رشاد رشدى» عنا، إننا العائلة المقدسة!

لم يكن «على إسماعيل» موسيقيا فحسب، بل كان إنسانًا يستغرق فى أداء قيادته وموسيقار استغراقًا جعل الكثيرين من الناس يحضرون العرض خصيصًا ليروه يقود أوركسترا بروحه وحسه وذهنه، وبكل ما أوتى من معالم الحياة.

ولقد طلب منه «كوكا تركس» (صاحب مسرح أوليمبيا بباريس) أمامى مرارًا أن يبقيه بباريس فرفض وقال إنه قطعًا من مصر ومن أسرة رضا.

بدأت رحلات فرقة رضا عام 1960 إلى سوريا ثم إلى ألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتى ونالت نجاحًا منقطع النظير ثم توالت رحلاتها الفنية إلى غالب بلاد الدنيا فى أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا وأتمت قبل نهاية عام 1974 ما يزيد على ألفين من الحفلات!

ويحكى الأستاذ «حسن فهمى» قصة طريفة عندما كان يحضر مناسبة الاحتفال بذكرى ثورة 23 يوليو فى مقر السفارة المصرية بباريس فيقول: فى مثل هذه الاستقبالات يختلط الحابل بالنابل، وبينما أنا فى هذا الحشد متسلحًا بزوجتى وابنتى وأولادى أفراد فرقة رضا، اقترب منى رجل مهيب الهيئة تذكرت ملامحه وظننت أننى رأيته منذ مدة غير طويلة فى مصر بمكتب وزير الثقافة، وكان الوزير قد قدمنى إليه باعتبارى عميدًا لمعهد السينما وأستاذا بكلية الهندسة جامعة القاهرة ولم يعرفنى به!!

 

 

 

 

وبمجرد أن رآنى بهذه المقابلة وقال لى ألست أنت فلانًا الذى سمعت عنه فى كل المؤتمرات اللغوية العربية فى بغداد وفى غيرها، وكنت فعلًا قد دعيت لإرسال مؤلفاتى فى اللغة العربية إلى هذه المؤتمرات التى لم أتمكن من حضورها لمشاغلى العديدة، ولما كان هذا الرجل يجيد العربية إجادة تامة أخذ يناقشى مناقشة ذكية فى كل مؤلفاتى وأنه تتبع أعمالى اللغوية فيها وأخذ يقرظ أعمالى مؤكدا لى أن معالجتى للموضوع كانت معالجة علمية أصيلة منطقية لم يسبقنى إليها أحد من علماء اللغة! وأخذ يلت ويعجن، وهنا خامرنى شك عظيم فى هذا الرجل وما أظهره من عشق وهيام لمصر ولمن فيها وللغة العربية وأصالتها! وأصبح هذا الرجل لغزًا لابد من حله!

وفى اليومى التالى قضت فرقة رضا سهرة طويلة فى مبنى السفارة وفجأة قال سفيرنا فى باريس لحسن فهمى: إيه اللى عملته فى الأستاذ جاك بيرك! وعندما نفى حسن فهمى معرفته به قال السفير: جاك بيرك يا حسن بك من أكبر المستشرقين وهو عضو الأكاديمية الفرنسية وإنه من الذين يشار إليهم بالبنان فى كل الدنيا وكتبه ومؤلفاته من الكلاسيكيات وهو فوق ذلك من عشاق العرب ومناصريهم!

قلت له: وأنا داخلى فى ده إيه؟! قال: إزاى ده الراجل مابطلش الكلام عليك طوال السهرة!

فقلت له: هو ده الراجل اللى احتجزنى طوال الوقت معاه فى الركن؟ قاللى: أهو هوه يا سيدى، هذا الرجل معجب بك، وبأعمالك جدًا ولما عرف إنك بتاع فرقة رضا كما قال: كملت!

وأخذ السيد السفير يزيد ويعيد فى هذا الكلام حتى كدت أصدقه والنفس أمارة بالسوء!!

وما أجمل حكايات وذكريات المهندس حسن فهمى أو بابا حسن أو أبو الفنانة الرائعة «فريدة فهمى»!

وللحكاية بقية!