السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
رحلة بنت الشاطئ من الهلال وكوكب الشرق إلى الأهرام

حكايات صحفية

رحلة بنت الشاطئ من الهلال وكوكب الشرق إلى الأهرام

فى سن العشرين بالضبط بدأت عائشة عبدالرحمن التى أصبحنا نعرفها بلقب بنت الشاطئ رحلتها الصحفية فى مجلة النهضة النسائية لصاحبتها الأستاذة لبيبة أحمد وسرعان ما أصبحت تقوم بكل ما يتطلبه العمل الصحفى نظير أربعة جنيهات شهريا!



 

كانت تعد المواد الصحفية للطبع وتذهب بها إلى المطبعة وتقوم بتصحيحها كاملة وتمضى فى مذكراتها البديعة على الجسر بين الحياة والموت سيرة ذاتية فتروى كيف كانت تحمل نسخ المجلة ـ ألفي نسخة ـ بعد طباعتها وتنقلها فى عربة تجرها الخيل إلى مقر المجلة وتقوم بكتابة عناوين المشتركين على غلافها ثم تحملها على دفعات إلى صندوق بريد المطبوعات ثم تتابع تسديد الاشتراكات وتكمل: أحتفظ بما يرد منها ـ ثمن الاشتراكات ـ حتى تعود السيدة الحاجة من رحلتها السنوية إلى الحجاز حيث اعتادت أن تقضى هناك نحو ستة أشهر مطمئنة إلى إخلاصى فى القيام على شئون مجلتها وراضية كل الرضا عما أكتب باسمها من مقالات افتتاحية رصينة.وكنت كذلك راضية تماما عن هذه التجربة التى أشبعت هوايتى القديمة للكتابة ودربتنى عليها، وهيأت لى مع ذلك كله مكافأة شهرية ثابتة تبلغ ثلثى المرتب الذى أتقاضاه من وظيفتى الرسمية فى كلية البنات!

 

أنطون جميل
أنطون جميل

 

وتمضى الأستاذة عائشة عبدالرحمن فى ذكرياتها فتقول: وتقدير السيدة الكريمة لأسلوبى هو الذى أغرانى بأن أرسل بعض قصصى إلى الصحف اليومية وإلى مجلة الهلال التى كانت فى ذلك الحين تنشر لأعلام كتاب الجيل، وقد نشرت لى صحيفتا «البلاغ وكوكب الشرق» ما أرسلت إليهما من قصص قصار، وأما مجلة الهلال فأعادت قصتى  إلى مع بطاقة اعتذار باسم أميل زيدان.

فى تلك الأيام على وجه التحديد عندما بدا لى أن أتجاوز لقلمى نطاق المجلة الشهرية المحدودة التوزيع حيث لا احتمال لأن تصل إلى محيط والدى والأسرة إلى الصحف اليومية والمجلات الكبرى،  فكرت فى التستر وراء اسم مستعار لئلا يعلم أبى بالأمر فيغضب وينكر ويصدر قرارا يحرم فيه على مكاتبة الصحف والاتصال بها وذلك ما لم تكن تقاليد البيئة والجيل تسوغه لحريم العلماء.

ولم يطل بى التفكير فى اختيار الاسم المستعار بل كان أول ما خطر على بالى هو أن أنتمى إلى الشاطئ مهد مولدى وملعب طفولتى ومدرج حداثتى ومجلى تأملاتى.

وهكذا ولد اسم بنت الشاطئ الذى أصبح لصيقا بها وتمضى قائلة متذكرة فيما كنت أمارس هواية الكتابة وأحمل عبء عملى فى كلية البنات وعبء تحرير مجلة النهضة النسائية وإدارتها تابعت تحصيل المواد المقررة على طلاب البكالوريا التى ظفرت بها صيف عام 1934 مع قلة من الناجحين من منازلهم.

كانت شهادة البكالوريا قد رفعت وظيفتى إلى سكرتيرة لكلية البنات ـ أرقى معهد حكومى لفتيات الطبقة الراقية كما رفعت مرتبى الشهرى من ستة جنيهات إلى سبعة ونصف لا أدفع منها قرشا مقابل إقامتى وطعامى بالكلية. وفى الحياة العامة كانت أضواء المجد الأدبى تلوح على أفقى منذ نشرت لى جريدة الأهرام فى صفحاتها الأولى مقالاتى عن الريف المصرى وقضية الفلاح.

على مدى عام وقد توثقت صلتى بالجريدة الكبرى من يوم أن أرسلت إليها مقالاتى الأولى صيف عام 1935 فلم تكتف بنشره فى صفحاتها الأولى بل اتصل بى سكرتير التحرير الأستاذ نجيب كنعان يدعونى لمقابلة صاحب الجريدة جبرائيل تكلا بك الذى رحب بى وضمنى إلى أسرة التحرير بتوصية من الأستاذ أنطون الجميل، الذى قرأ مقالى قبل سفره إلى أوروبا فى ذلك الصيف وأشر عليه بالنشر وأوصى بالبحث عنى وضمى إلى أسرة التحرير.

 

عائشة "بنت الشاطئ"
عائشة "بنت الشاطئ"

 

وكان لى بجريدة الأهرام مكتبى الخاص فى غرفة رئيس التحرير الأستاذ أنطون الجميل، حيث ملتقى الأقطاب من رجال السياسة وأعلام الفكر والأدب، وأنا غريبة بينهم أعيش بكل خواطرى مع قومى الكادحين فى الحقول والشطوط، وأتسمع على البعد لهاث الظامئين منهم وأنين المرضى والجياع والمحرومين وأصغى بكل وجدانى إلى أصداء بعيدة شجية من أغانى الرعاة والزراع ومواويل البحارة والصيادين وأتنقل بين مدرجات الجامعة الشامخة وأبهائها الرحبة وحقيبتى ملأى بالكتب العصرية الأنيقة، وأنا مشدودة بروابط نفسية وروحية إلى مقعدى الخشبى فى خلوة والدى بجامع البحر، وإلى مجلس على حصر بال فى كتاب سيدنا الشيخ مرسى بقرية شبرا وأثمن ما أمتلكه مصحف شريف.

لم تستطع المدينة أن تغوينى بسحرها الخلاب وإنما أنا فيها غريبة نازحة!

فى ذلك الجو النفسي المشحون بهواجس القلق والخوف تابعت خطواتى إلى الجامعة بكلية الآداب.

وتصف عائشة عبدالرحمن أيام المعاناة فى الجامعة وعزلتها النفسية والفكرية ولكن سرعان ما يتغير كل شيء فى حياتها إذ تقول:

كنت أقضى عطلة ذلك الصيف من عام 1936 فى قرية والدى بشبرابخوم من ريف المنوفية حيث تعودنا أن ننزح إليها من دمياط كل صيف فى عطلات المعاهد وقد توجست خيفة حين عرفت أن القرية تعلم أنى دخلت الجامعة، وتعلم كذلك أننى أنا التى تكتب فى الأهرام عن الريف والفلاح بالتوقيع المستعار بنت الشاطئ.

سمعت القرية بذلك كله، من اثنين من جيرانها بها، الأستاذ أحمد الشايب وكان زميلا لوالدى فى مراحل الدراسة وقد تخرج فى مدرسة دار العلوم واشتغل بالتدريس فى المدارس الابتدائية والثانوية بالإسكندرية ثم نقل قبيل وصولى إلى الكلية مدرسًا فى قسم اللغة العربية.

الطالب بالسنة الثالثة فى القسم من أحفاد الشيخ يوسف شلبى الشبرابخومى عالم الإقليم ومن أعيان مشايخ الوقت! ولكن أهل القرية كانوا كراما فلم يتطوع أحد منهم بالخوض فى سيرتى بمجلس والدى وكأنما تواصلوا فيما بينهم دون تدبير أو اتفاق، على أن يحمونى من غضب أبى ويحموه من صدمة مصابه فى ابنته التى وهبها للعلم الدينى وحده منذ كانت وليدة فى المهد، وأحسست أن القرية تقف إلى جانبى تبارك طموحى وتؤيد مسعاى وتعتز بكل ما أكتب عن مأساة الريف وقضية الفلاح.

وحتى ذلك الوقت كانت عائشة عبدالرحمن تظن أن أبناء قريتها لم يربطوا بين اسمها وبين ذلك الاسم المستعار الذى تذيل به المقالات وتضيف: فلما اكتشفت أن القرية تقف إلى جانبى بعد أن عرفت سرى،  زادنى هذا الموقف ارتباطا بالريف الطيب وعزلة نفسية عن المدينة وأهلها! مطمئنة إلى أننى محصنة من فتنة المدينة وغوايتها بمناعة زودتنى بها الأرض الطيبة.   

ودعت القرية وعدت إلى العاصمة وملء نفسى شعور واثق بأنى أدنو من منطقة الضوء التى تنجاب فيها عن أفقى ظلال القلق والحيرة وتتضح معالم الطريق ومن عجب أننى ما كدت أصل إلى العاصمة حتى زايلنى ما كنت أشعر به من تهيب للجولة القادمة، واستعدت كل زهو طموحى وعناد كبريائى تحت ضغط إحساس غريزى بحاجتى إليهما دفاعا عن وجودى فى ذلك الخصم الصاخب!

ورحت أستجمع قواى للجولة التى توقعت أنها الحاسمة فأزد ما فى الغرور إذ أبدأ عامى الثانى فى الجامعة ومكتبات العاصمة تعرض كتابى الأول عن الريف المصرى والمجتمع الأدبى يتحدث عن فوزى بالجائزة الأولى للمباراة الرسمية لوزارة على ماهر فى موضوع «إصلاح الريف والنهوض بالفلاح» ومجتمع القرية يتابع أنباء اختيارى عضوا فى المؤتمر الزراعى الأول الذى عقد بالقاهرة عام 1936 وكان زملائى فيه أقطاب الزراعيين فؤاد أباظة مدير الجمعية الزراعية الملكية، ومحمد ذو الفقار مدير المتحف الزراعى،  وعثمان أباظة مدير مصلحة الأملاك الأميرية وحسين فريد وكيل الجمعية الزراعية وإبراهيم رشاد عميد التعاون!

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

وتوجهت إلى الجامعة مشحونة بالكبرياء والتحدى والعناد وقد آليت على نفسى ألا أدع هذه الجامعة تستدرجنى لتسلبنى كنزى القديم فى غفلة منى وشط بى الوهم وجمح فخلت أن الجامعة تضيق بمثلى فلن تهدأ حتى تطوينى فى ظلها وتحاول بكل ما وسعها من جهد وحيلة أن تذيبنى فى بوتقتها لكى أنسلخ من قديمى الأصيل وأعتز بانتمائى إليها! ولست أدرى لماذا تذكرت فى موقفى ذاك من الجامعة تجربتى الأولى فى العاصمة مع السيدة الحاجة «لبيبة أحمد» صاحبة النهضة النسائية.

ربما جاء الاختلاط من حيث أسرتنى السيدة الوقور بلطفها وتشجيعها وبما ائتمنتنى على اسمها ومجلتها ودارها فلم أستطع الفكاك من الأسر إلا بمشقة بالغة بعد أن أجهدتنى معاناة التقمص لشخصية السيدة الحاجة والتفكير بعقليتها والتعبير عن وجدانها، وبينى وبينها من فروق السن والتجربة والطبقة والبيئة، ما جعل هذه المعاناة نوعا من العذاب، لقد طوتنى فى ظلها وهى تبارك مواهبى فشاخ قلمى الغص واكتهلت عقليتى الصبية لطول ما تقمصت فكريا شخصية السيدة فى سن جدتي!

ولولا أن تداركتنى رحمة من ربى لما استطعت التخلص من أغلال الأسر لمجرد أن وضعت إحدى قدمى فى الجامعة والأخرى فى دار الأهرام واستطعت بمشقة بالغة أن أسترد ذاتى بعد أن وعيت الدرس الأول الذى تعلمته فى المدينة ومحال أن أسمح لبيئة ما فى العاصمة ولو كانت الجامعة أن تطوينى فى ظلها وتذيب عقليتى فى بوتقتها لتسلبنى ذاتى مرة أخرى.

باختصار شديد بنت الشاطئ عبقرية حقيقية فى عالم الكتابة