الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
بنت الشاطئ على جسر الحياة والصحافة

بنت الشاطئ على جسر الحياة والصحافة

فى حياتنا الفكرية والأدبية والصحفية أسماء لا تغيب أبدًا رغم مرور عشرات السنوات على رحيلهم، ومن هذه الأسماء اسم الدكتورة «عائشة عبدالرحمن» التى كانت توقع مقالاتها باسم «بنت الشاطئ»!



قصة كفاح امرأة قهرت المستحيل وظروفها القاسية، وكانت لها بصمة لا تنسى عبر أربعين كتابا قامت بتأليفها ومنها على سبيل المثال : القرآن والتفسير العصرى، وكان ردا على كتاب «د. مصطفى محمود» «نساء النبى»، و«مقال فى الإنسان»، و«تراجم سيدات بيت النبوة» وغيرها من الكتب المهمة.

 

كانت د. عائشة عبدالرحمن ثانى امرأة تكتب فى جريدة الأهرام بعد الأديبة «مى زيادة»، وقصة اشتغالها بالكتابة والصحافة تستحق القراءة، وقد حرصت على تسجيلها فى كتابها الرائع «على الجسر بين الحياة والموت»، سيرة ذاتية والذى صدر عام 1966 فى العام نفسه الذى رحل فيه زوجها الشيخ «أمين الخولى» وسجلت فيه قصة حبها والذى انتهى بزواجهما، حيث تقول: «كانت قصتنا أسطورة الزمان لم تسمع الدنيا بمثلها قبلنا، وهيهات أن تتكرر إلى آخر الدهر».

كانت نقطة التحول فى حياة الطفلة عائشة عندما أصيب جدها بكسر عظم الفخذ ووافق والدها على أن تقوم على خدمته وتعيش إلى جواره، وفى الوقت نفسه كانت تدرس بالمدرسة الراقية، وتروى فى مذكراتها قائلة:

«أظننى بدأت فى تلك المرحلة أتصل بالصحافة والحياة العامة عن طريق غير مباشر، فلقد كانت الهواية الوحيدة لجدى بعد أن قيدته الحادثة إلى فراشه أن يتتبع ما تنشره الصحف من أخبار، كما كان مشغلته التفكير فى إنقاذ دمياط من الموت الاقتصادى الذى يهددها بتراكم رواسب النيل عند بوغازها قرب المصب على ساحل البحر!

وتحت وطأة شعورى بالأسى لما أصاب جدى بسبب إصراره على تحقيق مناى فى التعليم بالمدرسة، تفانيت فى خدمته وأنا أشعر نحوه بولاء المدين بدين باهظ، فكان من واجباتى اليومية، أن أشترى له فى طريق عودتى من المدرسة، جريدتى «الأهرام والمقطم»، لأقرأهما له، ثم أجلس إليه فى عطلة آخر الأسبوع ليملى علىّ «عرض حالات ومقالات» يبعث بها إلى الحكام فى مصر، وإلى الصحف اليومية، فى موضوع تعطل الميناء وحوادث غرق السفن الشراعية أثناء عبورها البوغاز، لكثرة ما تراكم فيه من رواسب على مر الزمن!

وهكذا على مدى السنوات الثلاث التى قضيتها فى المدرسة الراقية تابعت هذا العمل، وكنت أول الأمر أستجيب فيه لحرصى على أداء بعض ما أدين به لجدي، غير أنى ما لبثت أن أحببت الكتابة، وأرضانى أن أطالع فى الصحف ما كتبته تعبيرا عما كان الجد يمليه علىّ، فمضيت أتفنن فى الأسلوب وأبذل لتجويده كل طاقتى»!

حدث كل ذلك ولم تكن «عائشة» قد تجاوزت سن الثانية عشرة بعد، وتمضى رحلة الحياة بها وتلتحق بمدرسة المعلمات وتمضى من عام إلى آخر ويقرر والدها أن تبقى بالمنزل وتقرر شطب اسمها من سجل الطالبات لعدم انتظامها فى الدراسة، لكن الإرادة والإصرار كانا سلاحها فى هذه المعركة، وتقول:

«كان المنفذ الوحيد أمامى أن أستعير الكتب المدرسية المقررة على طالبات السنة النهائية بمدارس المعلمات، حيث عكفت على تحصيلها ثم تسللت من البيت خفية، وأبى غائب عن المدينة فى إحدى رحلاته، فأديت امتحان شهادة الكفاءة للمعلمات أمام لجنة مدرسة طنطا، وخرجت منه - وأنا الوحيدة التى تقدمت إليه من المنزل - أولى الناجحات فى مصر، بفارق مائة وثلاثين درجة فى المجموع عن الطالبة التى تلينى فى ترتيب النجاح»!

وتحكى «د. عائشة عبدالرحمن» عن موقف طريف حدث لها أثناء أداء الامتحان الشفهى عندما أخذ الممتحنون يسألونها عما تحفظه من النصوص الشعرية وتقول: «ثم مازالوا ينتقلون بى من عصر إلى عصر وهم فى دهشة من حفظى حتى إذا وصلنا إلى العصر الحديث فاجأتهم بسؤالى: «من شعرى أو من شعر سواى؟

 

عائشة "بنت الشاطئ"
عائشة "بنت الشاطئ"

 

ولم ينسنى مر السنين ما بدا عليهم من عجب وقد قال أحدهم:

- إن كنت شاعرة فأسمعينا إحدى قصائدك!

وأنشدتهم قصيدة لى «فى الحنين إلى دمياطى ثم أتبعتها أخرى، صورة شعرية لزوجة صياد خرج إلى البحيرة فى ليل عاصف!

ولم يبق لديهم ما يمتحنوننى فيه فأقبلوا علىّ يسألوننى عن وجهتى فى التعليم بعد نيل هذه الشهادة لكفاءة المعلمات، وأجبت عن سؤال السادة الممتحنين:

- فى نيتى أن أعكف على تحصيل المواد المقررة على القسم الإضافى فى معلمات بولاق ومدته سنتان، ثم أتقدم من المنزل لأداء امتحانه النهائى!

فأنكروا ما سمعوه من جوابى وزينوا لى أن أعدل عن هذا الطريق القريب إلى طريق الجامعة ففيها وحدها المجال الرحب الذى يستحق أن أتعلق به وأسعى إليه!

وفى ظنى أنى لم أكن حتى ذلك اليوم قد سمعت عن الجامعة إلا كلمات مبهمة ترجمها بالزيغ والضلال، وانصرفت وليس فى نيتى إطلاقا أن أشغل نفسى بالتفكير فى هذه الجامعة التى زينوا لى الاتجاه إليها!

وبعد حصول «عائشة عبدالرحمن» على شهادة كفاءة المعلمات تبدأ رحلة التدريس كمعلمة فى مدرسة البنات بمعلمات المنصورة وتقيم فى القسم الداخلى بها!

وتكمل: «مضى على عملى بالمنصورة عام وبعض عام، ملأت كل دقيقة منها بالتدريس نهارا والتحصيل ليلا، وكنت كلما أجهدنى العمل المزدوج، روحت نفسى بمطالعة كتب من صنف جديد غير الذى كان متاحا لى فى مكتبة بيتنا!

وأدين لمكتبة «السروى» فى المنصورة بهذا الأفق الجديد الذى فتحته أمامى بأيسر جهد وكلفة، إذ كانت تتبع أسلوبا مبدعًا فى تأجير الكتب، يستطيع به القارئ أن يأخذ كتابًا أو اثنين من مقتنيات المكتبة، ثم يردهما بعد مطالعتهما ويستبدل بهما كتابين غيرهما نظير قروش معدودات! وأتاح لى هذا النظام أن أقرأ فى العامين اللذين أمضيتهما بالمنصورة كل كتب المنفلوطى المؤلفة والمترجمة، وكل روايات تاريخ الإسلام لجورجى زيدان، وجمهورية أفلاطون ترجمة «حنا خباز» و«ألف ليلة وليلة» وغيرها من الصنف الممنوع فى عرف بيئتى»!

ومن المنصورة إلى القاهرة للعمل بإحدى المدارس الأولية بحى السيدة زينب، وتبدأ رحلة تعلم اللغة الفرنسية مع اللغة الإنجليزية وتستعد لخوض امتحان الشهادة الثانوية، وكان ذلك عام 1932، أى كان عمرها 19 عاما فهى من مواليد 1913 وتحكى:

«فى ذلك العهد عاودنى الشوق القديم إلى الكتابة فى الصحف، وكنت أثناء إقامتى القصيرة بمدرسة المعلمات طالعت فى مكتبتها أعدادا من مجلة «النهضة النسائية» فبدا لى أن أبعث إليها بقصيدتى فى «الحنين إلى دمياطى فلما ظهر العدد التالى وقصيدتى منشورة فيه، تابعت إرسال قصائدى ومقالاتى، والمجلة الغراء ترحب بها وتفسح لها صدرها!

ثم لما نزحت إلى العاصمة، لم أكد ألتقط أنفاسى بعد الشوط المجهد، حتى تفضلت صاحبة المجلة السيدة «الحاجة لبيبة أحمد» فدعتنى إلى زيارتها فى دار المجلة بحى عابدين، ولبيت الدعوة على استحياء وأنا أتهيب مقابلة هذه السيدة التى تنتمى إلى الطبقة الراقية!

وكان قد بلغنى من أنباء حياتها أنها تزوجت أول مرة من «مرتضى باشا» ثم من أحد رجال أسرة «الهرميل»، وأن إحدى بناتها كانت - رحمها الله - زوجة لعبدالستار الباسل بك، خلفا لفقيدة الأدب «ملك حفنى ناصف»، باحثة البادية!

وأسرتى ليس فيها باشوات ولا بكوات، لا من جهة أبى ولا من جهة أمى!

وإنما قصارى ما كنا نعتز به، نسبنا من جهة أبى فى البيت الحسينى الشريف، ونسب أمى فى سلالة الشيخ «إبراهيم الدمهوجى» شيخ الجامع الأزهر!

لكن حرارة استقبال السيدة الكريمة إياى أذابت تهيبى! فكررت زيارتها أحمل مقالاتى معى، وأقوم بالمراجعة اللغوية لمواد المجلة، وقد تكلفنى السيدة الجليلة أحيانا كتابة مقالها الافتتاحى، فأعد هذا التكليف شرفا لى وشهادة لقلمى!

ثم بدا للسيدة الجليلة أن تستغنى لأسباب لم أسأل عنها - عن خدمات رئيس التحرير الأستاذ «محمد صادق عبدالرحمن» ومدير الإدارة «السيد عقل» وعهدت إلى فى القيام بعملهما معا من عدد أكتوبر سنة 1933، وقد أدركت بفطنتها حاجتى إلى مورد إضافى أستعين به على مواجهة نفقات تعليمى لكى أعفى أمى من المبلغ الذى تقتطعه لى من نفقات بيتنا المحدودة المتواضعة!

وتكمل «عائشة عبدالرحمن» اعترافاتها الممتعة والصادقة بقولها:

«وكنت من قلة الخبرة بالدنيا والناس، بحيث رحبت بتلك الفرصة، وأكبرت من السيدة المجربة أن تجد فتاة من الأقاليم مغمورة مثلى، تعبر المرحلة الثانوية للتعليم، أهلا لأن تتولى عبء المجلة كله، نظير أربع جنيهات فى الشهر، كانت فى تقديرى مكافأة سخية على كتابة بريد المجلة، وإعداد موادها للطبع، وتصدير كل عدد منها بمقال افتتاحى أتفنن فى إنشائه وأوقعه باسم السيدة الكبيرة صاحبة المجلة! ثم أحمل المواد كل شهر إلى مطبعة حجازى بالجمالية، لأعود مرة فأصححها، وأخرى لأتسلم أعدادها - نحو ألفين - مطبوعة، وأنقلها فى عربة خيل إلى مقر المجلة فى حى عابدين»!

ولذكريات «د. عائشة عبدالرحمن» - بنت الشاطئ - بقية أكثر إثارة ومتعة!