الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حكايات صحفية

إحســان يكتـب عـن إحســان

حكايات صحفية

اعتاد الكاتب الكبير الأستاذ «إحسان عبدالقدوس» فى عيد ميلاده الذى يوافق أول يناير من عام 1919 أن يقدم لقرائه كشف حساب أدبى وصحفى وسياسى ويحاسب نفسه فى جرأة وصدق وشجاعة ربما يفتقدها الكثيرون.



الشموع المطفأة - هو واحد من هذه المقالات المدهشة للأستاذ «إحسان» التى نشرها فى روزاليوسف بمناسبة عيد ميلاده وكتب فيه يقول:

 

أول يناير.. إن عيد ميلاده يوافق يوم الاحتفال بعيد رأس السنة وقد تعود أن يحتفل كل عام بيوم ميلاده وكان يحاول دائمًا أن يقنع نفسه أنه سعيد الحظ إذ يولد فى يوم يحتفل العالم كله به وكان يحاول دائما أن يبدو سعيدًا فى ذلك اليوم وأن يضحك وأن يضع قلبه على كف يده ليقدمه لكل من يعبر حياته.. ولكنه لم يستطع أبدًا أن يكون سعيدًا وخصوصًا فى ذلك اليوم.

إنه يشعر فى كل مرة يحتفل فيها بعيد ميلاده أنه نادم على ما فات وخائف مما هو آت! وهو يشعر دائمًا أنه فشل وسيفشل وإن كان الناس يعتقدون ويؤكدون أنه نجح وسينجح!

إنه فاشل إذا قاس أعماله بما يريد أن يعمل.. وناجح إذا قاس أعماله بما يريد منه الناس أن يعمل، وهو إذ يقلب أوراق حياته تبدو له أيامه كلها سوداء لا يرى منها نورًا يهديه إلى الطريق الذى أتى منه أو الطريق الذى سيذهب فيه!

ويمضى الأستاذ إحسان عبدالقدوس فى استعراض كشف حسابه فيقول:

ولكن عن أى طريق يبحث؟ وأى هدف يريد أن يصل إليه؟ هل يريد أن يصبح كاتبًا؟ هل يريد أن يصبح مشهورًا؟ هل يريد أن يصبح غنيًا؟ هل يريد أن يصبح سياسيًا؟!

إنه لا يدرى.. لا يدرى أين يذهب.. ولا من أين أتى.. لقد وجد نفسه يكتب دون أن يتعمد أن يكتب.. وقد أمسك بقلمه لأول مرة وهو فى الرابعة من عمره وخط خطوطًا لا معنى لها على ورقة بيضاء، فسأله والده باسمًا:

ما هذا الذى تخطه؟!

فأجاب فى سذاجة الأطفال: إنها أعواد من القش!

ونظر الوالد إلى الخطوط التى خطها الابن فوجدها حقيقة تمثل أعواد القش فابتسم فرحًا فخورًا بابنه الذى استطاع أن يرسم القش فى مثل هذه السن!

ولكن الابن عندما رسم خطوط القش لم يكن يقصد أن يرسمها وإنما أجرى قلمه على الورق بلا فكر وبلا هدف ثم نظر ليرى النتيجة فإذا بها أعواد من القش!

وهو من يومها يجرى بقلمه على الورق ويترك له العنان ليكتب ويكتب وليس له من دافع إلا هواجس نفسه ونبضات قلبه، ولو أغمض عينيه وهو يكتب لكانت النتيجة واحدة، فهو لا يكتب بعينيه ولا برأسه إنما يكتب بأعصابه وروحه وبعد أن ينتهى من الكتابة ينظر إلى الورقة ليرى ماذا كتب، ويفاجأ كما يفاجأ أى قارئ عادى وكأنه ليس صاحب القلم الذى كتب!

والناس تعجب بما يكتب كما أعجب به والده عندما رسم أعواد القش وهو فى الرابعة من عمره.

وقد تطور هذا الإعجاب حتى وصل به إلى مرتبة الشهرة، وأصبح الناس يعتبرونه كاتبًا بين الكتاب، وأصبحوا يثقون به ويدعونه صاحب رسالة وينتظرونه كل أسبوع على صفحات الجريدة التى يكتب فيها، ولكن هو نفسه لا يعجب بنفسه ولا يحس بالشهرة التى وصل إليها، لأنه لا يعتبر نفسه كاتبًا بل يعتبر نفسه طفلًا بلا عقل يجرى قلمه على الورق بلا إرادة وبلا وعى ولتكن النتيجة ما تكون!

ولم يكتف الأستاذ «إحسان» بهذه الاعترافات فى حق نفسه فمضى يقول:

«وهو يخشى ثقة الناس به لأنه يعتقد أن هذه الثقة ليست قائمة على أسس فى نفسه يستطيع أن يتحكم فيها، بل هى قائمة على ذلك الإلهام الذى يدفع بقلمه على الورق دون وعى منه، وهو إلهام لايستطيع أن يتحكم فيه ولا أن يحركه عندما يريد، بل هو نوع من النبضات العصبية التى تثور فى نفسه ثم تسرى إلى يده فترتفع من تلقاء نفسها لتمسك بالقلم وتكتب!

ولذلك فهو يخشى أن ينتظره أحد ليقرأ ما يكتب لأن هذا الإلهام لايتقيد بمواعيد صدور الجريدة ولا بمواعيد المطبعة، بل هو يتحرك فى أوقات لاينتظره هو نفسه، وقد لا يتحرك أبدًا، قد يمر أسبوع ويده لا تريد أن تمتد إلى القلم فى حين أنه يجب أن يكتب لأن المطبعة تنتظر!

وهنا تمر عليه أسوأ أيام حياته فهو لا يستطيع أن يكتب عندما يريد، بل إن أصدقاءه الخصوصيين يعلمون عنه أنه لا يعرف من قواعد اللغة العربية ما يكفى لأن يضع كلمات جنب بعضها تتكون منها جملة مفيدة!

إنه فى هذه الحالة يجن ويكاد يبكى، وأحيانا يرق إلهامه لدموعه فيدفع قلمه ليكتب، وأحيانًا يعصاه إلهامه فيختفى عن الناس وعن أصحاب جريدته معتذرًا بمرض أو بحدث!

فهو إذن ليس كاتبًا فى نظر نفسه وإن كان كاتبًا فى نظر الناس!

ويمضى إحسان فى مقاله متسائلًا: هل يريد أن يكون سياسيًا؟!

إنه لم يشعر بنفسه سياسيًا أبدًا، بل إنه يرى أحيانًا فى السياسة معميات يصعب عليه فهمها ويضل فيها عقله! وهو ينظر إلى السياسيين وكأنهم قوم غرباء عنه، ليس لهم عقليته ولا روحه! وحينما يجلس بينهم يحس أنهم يتكلمون لغة لايفهمها بل ويمقتها! ولكنه إن أنكر على نفسه صفة السياسى فلا يستطيع أن ينكر إنه وطنى وهو يفهم الوطنية كما يفهمها رجل الشارع.. يفهمها واضحة جلية مستقيمة كحد السيف، فلا يحاول أن يدس بوطنيته فى سواد الدبلوماسية ولا فى همسات الدوائر العليا!

وهذا الفهم للوطنية لا يحتاج إلى ذكاء نادر ولا إلى موهبة شاذة، ولا إلى فكر خارق للعادة، بل هو فهم بسيط لايتميز به عن أى رجل ساذج من الشعب بل إن الفلاح فى حقله قد يقيس الوطنية بأقوال العمدة! والعامل فى مصنعه قد يقيسها بما يطالب به من تحسين حاله.

أما هو فوظيفته مجردة لا تكلفه إلا أن يحس فهو يطالب بالجلاء - مثلا - بنفس الطريقة التى يحاول بها كلب مقيد أن يحطم قيده ولو أحس كل أفراد الشعب بأنهم كلاب مقيدون لتم الجلاء منذ عشرات السنين!

ورغم هذه البساطة أو السذاجة التى يفكر بها ويكتب بها فى شئون وطنه فإن الناس قد اعتبروه سياسيًا واعتبره البعض سياسيًا داهية! فحملوا ألفاظه أكثر مما كان يعنيه، وأخذوا حملاته التى لا يدفعه إليها إلا وميض أعصابه ونور قلبه، أخذوها مآخذ شتى ليست وطنية بل سياسية!

وخرج من ذلك بمبدأ آمن به وهو: كلما كنت بسيطًا كلما بدوت معقدًا فى نظر الناس، ويوم أن تكون معقدًا ستبدو بسيطًا..!

ويسترسل إحسان فى كشف حسابه فيقول متسائلًا:

هل يريد أن يكون غنيًا؟! لقد صار فعلًا غنيًا لو أن الغنى يقاس بالمال، فقد كان دخله منذ عامين خمسة وعشرين جنيهًا فى الشهر، ودخله فى ديسمبر الحالى وصل إلى مائتين وخمسين جنيهًا - بلا مبالغة - ولكنه منذ عامين كان يصرف ثلاثين جنيهًا فى الشهر، وهو اليوم يصرف ثلاثمائة جنيه، فهو غارق فى الدين فى كلتا الحالتين! وهو فى كلتا الحالتين ليس سعيدًا، وكلما زاد دخله كلفه بحثه عن السعادة أكثر!

إنه إذن كاتب وليس بكاتب، مشهور وليس بمشهور! وسياسى وليس بسياسي! غنى وليس بغني! وهذا هو سر روحه التائهة وقلبه القلق وفكره الشارد والسؤال الذى يبحث عنه هو:

- هل أنا لا أقدر نفسى حق قدرها؟ أم أن الناس يقدروننى أكثر من قدرى؟

ويختتم إحسان مقاله بسطور امتنان وعرفان وتقدير ومحبة وحب قال فيها:

إن سيدة واحدة تشاركه البحث عن هذا السؤال، وهى لا تبحث عنه بين الناس بل تبحث عنه فى نفسه، وكلما ظنت أنها وصلت إلى غور نفسه بدت لها فيه أغوار جديدة، إنه يخشى عليها أن تتوه معه، وهى تخشى عليه أن يتوه منها!

إنها السيدة الوحيدة التى تحتفل معه بعيد ميلاده، فتصمت معه طول الليل لتتركه يحاسب نفسه، فإذا ما انتهى من الحساب وهو عسير، بكى وضمها إلى صدره ثم حمد الله.

وبطبيعة الحال فقد كان إحسان يقصد بالسيدة الوحيدة زوجته الفاضلة التى شاركته سنوات الكفاح والشهرة والمجد وكانت بحق كما اعترف مرات عديدة سنده فى كل الأوقات، أوقات الشدة وأوقات الفرح!

ذكريات إحسان واعترافاته الصادقة تستحق التحية والتقدير.