الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
المازنى أخيب صحفى على ظهر الأرض!

المازنى أخيب صحفى على ظهر الأرض!

لم يسبق لى أبدًا أن صادفت صحفيا يصف نفسه بأنه «أخيب صحفى على ظهر الأرض»، بل العكس هو الصحيح تماما، فكل من أمسك ورقة وقلما يعتبر نفسه أمير الشعراء وأمير الصحافة ويستحق جائزة نوبل أيضا!



لذلك كله أدهشنى هذا الاعتراف الجرىء والصريح للأديب الكبير والصحفى اللامع الأستاذ «إبراهيم عبدالقادر المازنى» الذى وصف نفسه بالخايب !

 

فى كتابه الممتع والبديع «سبيل الحياة» الذى صدر عام 1961 فى سلسلة «كتب ثقافية» وهو شبه سيرة ذاتية له، وقد كتب المقدمة وله الأستاذ «عباس محمود العقاد» واستغرقت عشر صفحات من الكتاب!

من فصول الكتاب: بلدتى القاهرة، أمى، أساتذتى، فى طريق الحياة، لعب الطاولة، الابتسام، الإيحاء والسرقة الأدبية، قرائى الذين يحبوننى وغيرها!

أما قصته مع الصحافة، فقد شملها فصل عنوانه «بركة العجز» يقول فيه: «أرجو ألا يظن القراء أنى أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إنى أخيب صحفى على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاما من اشتغالى بالصحافة «أعجز» خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلىَّ ولا أثقل على نفسى من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمر!

ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل - وكان يسمى وزير الحقانية - فلما قابلت الوزير وحادثته فيما جئت له، تبينت أنى خلطت وأن هذا وزير الداخلية، وحسبى هذا فى بيان جهلى حتى بدور الوزارات!

 

سعد زغلول
سعد زغلول

 

 

لكن الصدفة وحدها جعلت المازنى ينفرد بنشر خبر يخص الزعيم سعد زغلول وتفاصيل الحكاية المثيرة يرويها المازنى قائلاً:

«ولكنى على جهلى وخيبتى فزت مرة بثناء طيب من المغفور له «سعد زغلول»!

رأيت «سعد باشا» أول مرة وأنا طالب فى مدرسة المعلمين وهو وزير أو ناظر للمعارف «سنة 1910» وقد زار المدرسة ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزى «دنلوب» وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه - واقفين فى أدب - وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا فى معنى الحرية ومآخذها، وأحسب أن هذا كان أول درس لى فى الحقوق والواجبات!

ودارت الأيام وقامت الثورة «1919» ونفى «سعد»، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتنى جريدة «الأخبار» التى كان يصدرها المرحوم «أمين الرافعى بك» إلى الإسكندرية لأكتب لها وصف استقبال «سعد» وعدت فى القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتى من محطة مصر إلى ميدان الفلكى لأنى لم أجد سيارة ولا مركبة خيل ولا رجلا يحملها عنى لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد!

ومضى الليل وطلع النهار فحدثت المعجزة، ذلك أنى كنت قبل ذلك بعام قد نزل بى مصاب رجنى رجة شديدة، وأتلف أعصابى وآثرت أن أتخذ مسكنا لى بين المقابر، وكانت لى قريبة كلما زارتنى تقول لى: يا ابنى ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة!

ولكنى كنت أجد فى هذه الوحشة أنسًا، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس!

وطبيعى أنى كنت أعرف «التُّربية» - بضم التاء - وفى صبيحة اليوم التالى لعودة «سعد» خرجت من بيتى فى نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتى كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التُّربية» المرحوم الشيخ «عبدالخالق الطحاوى» يخرج فى سيارته مسرعًا، فلما رآنى تمهل وأخبرنى أن «سعد باشا» آت لزيارة مقابر الشهداء، وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة، وأن هذا الخبر سر لا ينبغى أن يذاع وهذه رغبة سعد!

 

إبراهيم عبدالقادر المازنى
إبراهيم عبدالقادر المازنى

 

وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات فى الأولى «سعد» و«واصف غالى باشا»، وفى الثانية «أمين بك يوسف» والمرحوم «سينوت بك حنا»، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع «سعد» مقبرة المرحوم «مصطفى باشا فهمى» صهره، ثم مقبرة شهداء المسلمين، وفيها ألقى «سعد» خطبة وجيزة كتبتها على «ركبتى» فما كان ثمة مقعد أو حائط، ثم انطلق الجميع إلى مقبرة الشهداء الأقباط فى شارع الملكة «نازلى»، وهناك خطب «سعد» أيضا مترحما على الشهداء حاضا على الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الوطن، وهناك أيضا سلم علىّ «سعد» وشكرنى ولم يزد! وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضًا!

ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم «أمين بك الرافعى» أعتذر عن التأخر فضحك رحمه الله وقال: لقد أبلغنى سعد باشا أنك رافقته فى زيارته لمقابر الشهداء وهو يستغرب جدا أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثنى عليك ويقول إنك أبرع صحفى، وأن ما كان منك يشبه السحر!

وضحك «أمين بك» وقال: طبعا لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!

وهكذا فزت بثناء لا أستحقه ولا فضل لى فيما استدعاه، وإنما الفضل لمجاورتى يومئذ لأهل القبور!

 

ويتذكر الأستاذ «إبراهيم عبدالقادر المازنى» حكاية أخرى مع «سعد زغلول» فيقول: «أذكر أن «سعد» قال لى فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له فى الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أنى أنا الذى حذف العبارة التى ظهر فى مكانها بياض! وذلك لأن فلانا - ولا داعى لذكر اسمه الآن - أخبرنى أنك أنبته عنك فى مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن!

 

إبراهيم عبدالقادر المازنى
إبراهيم عبدالقادر المازنى

 

أما الرقيب فقد أخبرنى أن رئيس الوزراء - وكان عدلى باشا - أمره ألا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك قبل نشرها!

فقال «سعد» رحمه الله: لقد أحسنت، إذ أنبأتنى بهذا، لأنه سيكون مستغربًا أن يحذف موظف صغير من كلام «سعد»!

ودعينا إلى الغداء عند «سعد باشا» - أمين الرافعى والعبد لله - جزاء لى على براعتى فى سكنى القبور! فأدهشنى وأنا جالس إلى المائدة أن يعود «سعد» باشا إلى سؤالى عما حذف الرقيب من كلامه!

وخفت أن يكون قد شك فى صدق ما رويته له، فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن فلانا - وكان حاضرا - طلب منى حذف ما حذف لأنك - أى سعد - كلفته أن يراجع خطبك!

فالتفت «سعد» إلى فلان هذا وقال له فيما قال: مجنون مثلك يكون رقيبا على عاقل؟!

فشعرت بندم وأسف وخجل لأنى عرضت «فلانا» هذا لغضب «سعد» أمام نحو عشرين على مائدته! ولكن ماذا كان يسعنى غير ذلك؟! لقد حذفت من كلام «سعد» نحو سطرين بأمر «فلان» هذا الذى ادعى أن «سعدا» وكَّله وأنابه عنه فى مراجعة خطبه، وكان لابد أن أذكر الحقيقة، لأن «سعدا» كان يهم بأن يؤاخذ الوزارة، وكانت تسمى يومئذ «وزارة الثقة» - بهذا الحذف، ويتخذ من ذلك سببا لمجافاتها وله الحق، ولكنها كانت غير ملومة وإنما كان الملوم عضوا من أعضاء الوفد!

بعد ذلك لم أقابل «سعدا» إلا مرة أخرى يطول الكلام فيها، لأنى خالفته فى سياسته وإن كانت الغاية واحدة، ولم تمنعنى مخالفته قط من إجلال صفاته وعرفان قدره والاعتراف بفضله!

ويفسر الأستاذ المازنى سبب خيبته كصحفى قائلا:

وأحسب أن مما جعلنى أخيب الخياب أنى عملت فى أول عهدى بالصحافة فى جرائد أصحابها من ذوى المنازل الملحوظة وممن لهم مشاركة كبيرة فى الحركة الوطنية والمساعى القومية!

فقد كان كل ذى رأى ومقام فى هذا البلد يومئذ يزور «الأخبار» مثلا فلا نحتاج أن نسعى إليهم لنقف على الحقائق ونطلع على الأسرار حتى لقد كنا نسمى بعضهم مازحين «مدير مكتب إفشاء أسرار مجلس الوزراء»، وكانوا يحتشدون فى غرفنا وفيهم «الوفدى» و«الدستورى» و «المستقل»، ويتناقشون ويتجادلون ويذيعون المطوى بالتفصيل الوافى الشافى، فنحيط بكل شىء وما تكلفنا جهدا ولا نهضنا عن مكاتبنا، واعتدت أن يسعى الناس إلينا ولا نسعى إليهم، فنفرت - أو زدت نفورا - من السعى والبحث والتقصى».

وما أكثر حكايات ومعارك المازنى الصحفية والأدبية والتى حرص على كتابتها وتسجيلها فى كتبه البديعة المتنوعة ومنها: قصة حياة، وإبراهيم الثانى وإبراهيم الكاتب و«سبيل الحياة»!

وللحكاية بقية