رشاد كامل
العقاد وصلاح عبدالصبور ومعركة الشعر السايب!
خاض الكاتب الكبير عباس محمود العقاد عشرات المعارك السياسية والفكرية والأدبية مع زعماء وأدباء، لكن أغرب وأعجب معركة خاضها كانت مع الشاعر الكبير «صلاح عبدالصبور» منذ ستين عامًا وبالتحديد سنة 1961، كان موضوع المعركة هو الشعر الحر.. أو كما سماه العقاد «الشعر السايب»!
كان العقاد «72 سنة» هو مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب ويرفض تمامًا قبول ومناقشة أى قصيدة تنتمى إلى الشعر الحر، الذى كان يمثله فى ذلك الوقت صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى، وكان العقاد يقوم بتحويل هذه القصائد إلى لجنة «النثر» وكان مسئولا عنها «د. مهدى علام» وكان بدوره يحولها إلى لجنة الشعر!
وكثيرا ما كان العقاد يهدد بتقديم استقالته كلما سافر وفد من شعراء مصر إلى مهرجانات الشعر فى العواصم العربية، وعلم العقاد أن أحد هؤلاء سيلقى قصيدة فى مهرجان دمشق الشعرى، وثار العقاد وغضب وأرسل خطاب استقالته إلى وزير التربية والتعليم فى ذلك الوقت كمال الدين حسين، مهددا بالاستقالة إذا ألقى صلاح عبدالصبور أو عبدالمعطى حجازى أو فتحى سعيد إحدى قصائدهم فى المهرجان!
وفى حوار صحفى سأل أحد الصحفيين العقاد: هل قرأت الشعر الحديث؟
واحمر وجه العقاد، وانتابته ثورة الغضب واحتد صوته وقال للصحفى:
- قرأت ماذا؟ هل تريد منى أن أقرأ الكلام الفارغ الذى يكتبه البتاع اللى اسمه «صلاح عبدالصبور» إننى أتحدى «عبدالصبور» هذا أن يقرأ عشرة أسطر من النثر دون أن يخطئ فى تشكيل أو نطق بعض كلماتها!
وانطلقت شرارة المعركة!
فى تلك الأيام كان صلاح عبدالصبور يكتب فى «روزاليوسف» سلسلة بعنوان ماذا يبقى منهم للتاريخ، تناول فيها بقلمه الرشيق إبداع طه حسين وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازنى والعقاد على مدى عدة أسابيع.
كان عمر صلاح عبدالصبور وقتها ثلاثين عاما، وصدر له ديوانان هما «الناس فى بلادى» و«أقول لكم»، ولم يهتم صلاح بهجوم العقاد الكاسح عليه وكتب فى مقالاته عن العقاد يقول بموضوعية شديدة: «العقاد شاعر بلاشك، أولا لأنه يملك المقدرة على الوزن وثانيا لأنه يحفظ كثيرا من الشعر ويعرف الجيد من الردىء، وثالثا لأنه لو كان يفكر مرة واحدة ويحس مرة واحدة لكان من أدق الناس إحساسًا وأصفاهم فكرًا، نعم إنه شاعر ولكن متى إذن يصبح العقاد شاعرا أصيلاً؟!
إن العقاد يصبح أصيلا حين يخلص لطبيعته الحسية وحين ينسى أنه «العقاد» المفكر الفيلسوف ولذلك فمن أحسن قصائده قصيدته فى رثاء كلبه «بيجو» وقصيدته فى يوم الأربعين لسعد زغلول، لأنه أحس عندئذ أنه صغير إزاء عظمة سعد، فاستسلم للحزن ولم يستسلم للزهو.
أما شعر العقاد فلا أعتقد مخالفًا فى ذلك رأى الصديق الكبير «نجيب محفوظ» أن أحدا من شعرائنا المحدثين تأثر به، ذلك لأن النزعة الفكرية فيه لم تكن نزعة متكاملة، بل كانت تقليدا لشعر الحكمة القديم، وقد يكون تأثر الجيل الجديد من شعرائنا محصورًا فى منبعين ليس منهما شعر «العقاد»، وهما مدرسة «أبوللو» وبخاصة «على محمود طه» وشعراء المهجر وبخاصة الشاعرين الكبيرين «إيليا أبوماضى» و«ميخائيل نعيمة»!
ولعل سر وقوف العقاد الكاتب الذى رفع راية التجديد منذ 40 عاما وتزعم يومئذ ما سماه بالمذهب الجديد فى الأدب والنقد، لعل سر وقوف «العقاد» الآن فى وجه كل جديد أنه يحس أنه قد قال فى مجال النقد كل جديد، ونقل إلى قراء العربية كل رأى متقدم، وأن ما يجد على الدنيا بعد ذلك إنما هو زيادة وفضول.
وسواء قرأ الأستاذ العقاد ما كتبه «صلاح عبدالصبور» فى «روزاليوسف» أم لم يقرأه، فقد قرر الرد وبقسوة وسخرية، وكان مقاله «الشعر السايب تأباه السليقة الشعبية»! «أخبار اليوم، 10 يونيو سنة 1961»، وفيه يكتب:
«من الحجج الواهية التى يتمسح بها أنصار «الشعر السايب» وأعداء الوزن والقافية أنهم يتعللون بالغيرة الشعبية فيزعمون أن إلغاء الوزن والقافية يقرب الأدب من الشعب، ويقولون ويعيدون أن الشعر الموزون المقفى ترف برجوازى يتعالى على المدارك الشعبية ويصعب على السامع «الشعبى» أن يتتبعه بالفهم أو بالحفظ والرواية!
إن الغيرة الشعبية على هذه النغمة حجة باطلة لأن العدو المبين للشعب هو الذى يحرم عليه التعليم، ثم يفرض عليه الجهل ضريبة دائمة لا ترتفع عن كاهله الآن ولا بعد حين!
إن عدد البحور التى نظم فيها شعراء اللغة العامية أزجالهم يزيد على عدد البحور التى احتوتها دواوين الأقدمين والمحدثين من أقدم أيام الجاهلية إلى العصر الحاضر، فلا صعوبة فيها على السليقة الشعرية عند الزجالين ومنهم أميون لا يكتبون ولا يقرأون، ولم يسمعوا باسم «الخليل بن أحمد» واضع علم العروض وإنما كانوا جميعا فنانين مطبوعين على السليقة التى تجرد منها أنصار «الشعر السايب» وأبى عليهم الغرور أن يعترفوا بالعجز فأرادوا أن يموهوه على الناس باسم التقدمية والتحررية أو باسم الغيرة الشعبية بعد استنفاد الحجج!
وفى سبيل ماذا كل هذا؟ ما هى تلك البلاغة المعجزة التى جاءوا بها وعجز الناظمون قبلهم عن مثلها فى الوزن والقافية؟!
لا بلاغة ولا يحزنون! بل بلاهة ويحزنون! أو ندعهم يحزنون ويفرحون على أية حال وهم بعيدون عن الشعب المظلوم لأنهم لا وزن لهم، وهو شعب موزون!
ويعاود العقاد الكتابة فى مقال نارى بعنوان «شغلة لا تفلح أو لعبة لا تسلى» «أخبار اليوم 24 يونيو 1961» فيكتب قائلا: «إذا صح أن إخواننا المجددين يعتبون علينا لأننا نقصر فى توجيههم، فمن حق النصيحة إذن - أن نهمس فى آذانهم ليتركوا هذا «الشعر السايب» من ألفه إلى يائه لأنه شغلة لا تفلح أو لعبة لا تسلى! ولن يستمع إليهم أحد فيما يتغنون به من حديث الشعر بلا وزن ولا قافية، لأن حجتهم فيه هزيلة مملولة وما عهدنا فى التاريخ القديم أو الحديث أن الأمم تبنى أركان ثقافتها عشرات القرون ثم تهدمها آخر الأمر بهذه السهولة وبغير حجة معقولة، أو غير معقولة!
وسأكرر هذه النصيحة لهم بعد المقال الذى نشره السيد «صلاح عبدالصبور» بأخبار اليوم مقسما فى عنوانه على أن الشعر الحر «موزون والله العظيم».. وحسنا صنع بالقسم لأنه كلام لا بينة فيه غير اليمين!
إن السيد «عبدالصبور» يقول إن التفعيلة هى أساس الوزن فى شعره وأشعار زملائه وأن كل ما فيها من مخالفة للنمط الشعرى المتوارث هو اعتبار التفعيلة الواحدة بنيانا عروضيا متكاملا.. إلى آخر ما قال!
كدت أعتقد أن أخانا المجدد يمزح ويتبسط فى المزاح، لأن الاحتمال الآخر لكلامه هذا هو أن يكون جاهلا بمعنى التفعيلة، وقد يكون المزاح فى مقام الجد أرحم من الجهل بمعنى التفعيلة عند رجل يتصدى لإصلاح الشعر العربى كله.. ويقول إنه يستبدل بأشعار الأولين والآخرين شعرا أجمل منه فى الوقع والإيقاع، وأحب منه إلى الأذواق والأسماع!
ويمضى الأستاذ العقاد قائلا: «أى تفعيلة هذه التى تريد أن تجعلها أساسًا للوزن يا سيد «عبدالصبور»؟!
إن التفعيلات كلها تكتسب وزنها من البحر الذى تنتظم فيه، فلا تتشابه التفعيلة فى بحرين من بحور الشعر سواء بعدد الحروف أو ترتيبها أو بعدد التفعيلات وطريقة تكرارها، فأى تفعيلة هذه التى يريد صاحبنا أن يهدم العروض كلها ليبقيها وهى لا وزن لها بغير بحر من بحورها؟ هل يريد أن يبقى البحر مع التفعيلة، وأن يبقى البحور كلها مع تفعيلاتها فى مواضعها؟ إن كان هذا مراده من التجديد فلماذا نهدم شعرنا القديم إذن؟
ولماذا نقضى على الصلة بين حاضرنا وماضينا بعد إبقائنا على أوزان بحورنا وتفاعيلها؟!
ويتساءل العقاد بسخرية: أهى مجرد شقاوة يا سى عبده؟! أتمسح دواوين الشعر العربى جميعها من أجل كلمة التفعيلة التى لا تنفع الشاعر ولا الناظم كيفما كان بغير بحر تنتسب إليه؟!
أيظن «سى عبده» أننا نقلب الأوزان والأسماء التى نميز بها قصائد شعرائنا منذ القدم لأجل هذه الشغلانة التى لا تفلح أو من أجل هذه اللعبة التى لا تسلى؟!
أو من أجل شىء جديد ليس فيه غير الخلط بين الأوزان بعد الانتظام، وغير إعدام قديمنا المسكين بلا جريرة يستحق عليها عقوبة الإعدام؟!
دعك من هذه الشغلة يا سيد «عبدالصبور» أو دعك من هذه اللعبة وكسر ما شئت من الأطباق والفناجين، بل من الكراسى والدواليب، إن كان لابد من تكسير وتخريب»!
انتهت حكاية العقاد والشعر السايب!