الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
توفيق الحكيم بقلم الشاب «أحمد بهاءالدين»!

توفيق الحكيم بقلم الشاب «أحمد بهاءالدين»!

كان آخر ما يتوقعه الكاتب الشاب ونجم روزاليوسف «أحمد بهاءالدين» أن يطلب منه الأديب والمفكر الأستاذ «توفيق الحكيم» كتابة مقدمة لكتابه «تأملات فى السياسة» الذى سيصدر فى سلسلة «كتاب روزاليوسف مدرسة السياسة» وكانت السيدة «فاطمة اليوسف» هى رئيس التحرير المسئول لهذه السلسلة الجديدة!



وفى سبتمبر سنة 1954 صدر الكتاب بالفعل وكانت مقدمة الشاب «أحمد بهاءالدين» صاحب السبعة وعشرين عامًا حديث الوسط الصحفى والأدبى لكتاب توفيق الحكيم صاحب الستة وخمسين عامًا.

إن إعادة قراءة ما كتبه الشاب «بهاء» عن «الحكيم» تستحق القراءة أكثر من مرة، فقد كانت بمثابة دراسة هادئة ومتأنية مع فكر «الحكيم» نفسه!

كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين.. يقول:

«عندما تفضل الأستاذ توفيق الحكيم» ودعانى إلى أن أكتب مقدمة قصيرة لهذا الكتاب وقعت فى حيرة شديدة!

كيف أكتب هذه المقدمة ولم تمض علىًّ سنوات، عندما كنت أجلس الساعات على مقعد خشبى قاسٍ فى دار الكتب أنتظر العامل الذى يحضر لى كتب «توفيق الحكيم» لأغرق فى قراءتها مأخوذًا مبهورًا حتى يدق جرس الانصراف؟! وعندما كنت أدخر مصروفى لكى أقتنى نسخة خاصة بى من «عودة الروح»!

ثم ماذا أقول فى هذه المقدمة.. وقد أصبحت اليوم أخالف الأستاذ «توفيق الحكيم» فى كثير مما يذهب إليه.. ربما فى هذا الكتاب بالذات!

وقبل أن أبت فى هذه الحيرة برأيى، كنت قد غرقت فى كتب «توفيق الحكيم» أخرجتها جميعًا من مكانها فى مكتبتى وأخذت أعبر سطورها مرة أخرى، لا أذكر رقمها بين المرات التى قرأت فيها هذه المؤلفات من قبل! ووجدتنى مرة أخرى مع رموز «شهرزاد» وأبطال «عودة الروح» ووجوه «يوميات نائب فى الأرياف»!

ووقفت عند ملاحظة غريبة، لقد قضى «توفيق الحكيم» عشر سنوات هى زهرة عمره وبين الرابعة والعشرين والرابعة والثلاثين تقريبًا قضاها يكتب ويجرب ولا ينشر!!

كان قد تعلق قلبه بالمسرح تعلقًا شديدًا، ووضع وهو طالب فى الجامعة مسرحيات لفرقة «عكاشة» ولكنه بعد أن خبر المسرح المصرى أراد أن يصنع له شيئًا، شيئًا يرفعه إلى مرتبة المسرح العالمى، ومضى «توفيق الحكيم» يدرس ويقرأ ويحاول.. ونحت الصخر وكانت أمامه المشاكل الكثيرة التى تتراكم أمام كل رائد من الرواد الذين يقتحمون أرضًا جديدة!!

وقد كان المسرح والرواية أيضًا جديدة على الأدب العربى.. كانت أمامه مشكلة اللغة، وكيف يجد أسلوبًا موجزًا بسيطًا يلائم الحوار بدلًا من أسلوب المقالات المطولة الذى كان سائدًا، وكان أمامه أن يتقن الصنعة المسرحية ويضع يده على أسرارها، وأن يعرف كيف يجذب متفرجًا ليس له ماض طويل فى رؤية المسرح، كيف يجذبه إلى المسرحية من ساعة رفع الستار إلى ساعة إسدالها وكان أمامه بعد ذلك أن يضع فى مسرحياته معانى كبيرة غير ما يبدو على سطح الحوادث أن يضع فى أبطالها أفكارًا لا مشاعر فحسب!

وتنقل «توفيق الحكيم» كثيرًا بين القاهرة وباريس والريف المصرى البعيد، عاش بين الفنانين والشعراء والرسامين فى «مونمارتر» وبين الفلاحين والجنود والخفر فى القرية المصرية، ولكنه ظل أينما ذهب يحمل فى قلبه ورأسه وحقائبه دراساته وتأملاته ومحاولاته لخلق مسرح مصرى ورواية مصرية وفن مصرى.

عشر سنوات قضاها «توفيق الحكيم» - حقًا لا مجازًا - فى محراب الفن.. يكتب غير متسرع ولا متعجل ولا متلهف على النشر، عشر سنوات مضيئة كتب فيها أول مسرحية بالمعنى الحقيقى «أهل الكهف» ثم «شهر زاد» غير «الزمار» و«حياة تحطمت» و«الخروج من الجنة» و«الشاعر» و«رصاصة فى القلب»، وكتب فيها أول رواية واقعية مصرية «عودة الروح»، ثم «يوميات نائب فى الأرياف»، كل ذلك قبل أن يدخل اسمه الحياة الأدبية بنشر «أهل الكهف» على استحياء شديد سنة 1933».

ويتساءل الأستاذ «بهاء»: أليس فى ذلك درس لنا.. نحن شباب هذا الجيل؟

ويجيب على سؤاله قائلا: إن الشباب أبناء هذا الجيل يريدون أن يصنعوا - بإخلاص - أشياء باهرة وأن يقفزوا بالإنتاج الأدبى والفنى خطوات هائلة ولكنهم لايبذلون من أجل ذلك الجهد والإصرار اللازم لتحقيق ما يبتغون والظاهرة التى يجب أن نعترف بها هى ما يسود من تعجل النشر وتعجل الشهرة وتعجل الكسب - مما يجعل العمل الفنى يخرج مبتورًا ناقصًا غير ناضج، ويجعل النقد يبدو أحيانًا فى ثوب الرغبة فى الهدم والتسلق وإحداث الضجة فحسب!

ولا ينطبق هذا الكلام طبعًا على الجميع، ولا هو ينفى جهود المخلصين!

والإنتاج الذى جاء به «توفيق الحكيم» فى هذه السنوات الأولى هو - فى رأيى  الشخصى - أروع إنتاجه على الإطلاق، فهذه الأعمال الأربعة الكبيرة، عودة الروح ويوميات نائب فى الأرياف وأهل الكهف وشهر زاد.. هذه الأعمال مازالت هى القمة فى إنتاجه كله.. ومازالت هى التى تقترن باسمه قبل سواها، وما أنتجه بعد ذلك يدور فى فلك هذه الأعمال.. أو هو بمثابة «تطبيقات» مختلفة لها!!

وسوف يذكر التاريخ الأدبى أن ما أضافه «توفيق الحكيم» أساسًا فى تطور الأدب العربى قد أضيف فى هذه السنوات الأولى، ألا وهو: الشكل الفنى للقصة الواقعية المصرية والمسرحية المصرية، فإلى ما قبل ظهور «توفيق الحكيم» كانت القصة فى اللغة العربية سردًا وليس عملًا فنيًا دقيقًا كالبناء الهندسى!

وإذا كان توفيق الحكيم قد هجر بعد ذلك تجربته الرائعة الأولى فى الرواية الواقعية المصرية، فإن هجره لها لم يقلل من قيمتها.. فقد ظلت مثلا يحتذيه الآخرون!

••

وينتقل الأستاذ «بهاء» مفندًا بعض الاتهامات الموجهة إلى «الحكيم» فيقول: والتهمة الأولى التى توجه إلى «توفيق الحكيم» من الشباب بوجه خاص - هى أنه قضى السنوات الأخيرة معتصمًا ببرج عاجى لائذًا بعقيدة «الفن للفن»!

وكلمة «الفن للفن» - فى رأيى الشخصى أيضًا - لا تعبر عن مذهب أو عن نظرية ولكنها تعبر عن حالة نفسية فحسب! هل يقبل أحد أن يقال أن هناك نظرية اسمها «العلم للعلم» مثلا؟! وأن أصحاب هذا المذهب يرون أن يكون تحطيم الذرة لمجرد تحطيم الذرة، لا لكى تؤثر هذه الذرة بعد ذلك فى حياة الناس بالدمار إذا اتجهت إلى الحرب وبالعمار إذا اتجهت إلى السلم؟

لو قال أحد بشىء من ذلك لقيل عنه أنه «مخبول» قطعًا! إذن فلماذا لا يصدق أن هناك نظرية اسمها «الفن للفن»، وأن الفن بناء على ذلك يمكن أن يكون شكلًا باهرًا فحسب بلا موضوع أو مضمون أو قضية!

هل يكون «الفن» أقل خطرًا من العلم؟ كلا فإذا كان العلم يوفر لنا راحة السكن وسرعة الانتقال وسهولة الاتصال وما إلى ذلك من حاجات، فإن الفن عليه أن يوفر لنا حاجات، أعظم خطرًا، حاجات لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها مثل: الحرية. الشرف. العدل. المساواة.

إن العلم يقدم لنا الأدوات التى يمكن أن نهيئ بها سعادة البشر ورخاءه، ولكن الفن يقوم بدور رئيسى فى رسم الأسلوب الذى تستخدم به هذه الأدوات والغاية التى نستهدفها منها والمجتمع الذى نصنعه بها، فالفن بالنسبة للتقدم والعلم بمثابة العين التى ترى والنور الذى يهدى، فكيف يمكن أن توصف كلمة «الفن للفن، بأنها عقيدة أو نظرية؟!

ولكن ها هنا سؤال: لماذا نجد بعد ذلك آثارًا لا يمكن إلا أن نصفها بأنها «فن للفن»؟ ما تفسير وجود هذه الأعمال الفنية التى تشبه الصواريخ نصفق لضوئها وألوانها لحظة ثم تنطفئ ولا يبقى منها إلا تسلية الدقائق العابرة.

الواقع أن الفنان الذى ينتج «فنًا للفن» لا يفعل ذلك لأنه يؤمن بشىء اسمه «الفن للفن» ولكنه يفعله إما لأنه يخاف عاقبة الخوض فى معركة من معارك المجتمع وما قد يصيبه من أذى، وإما أنه يجد تفكيره الاجتماعى غير متلائم مع تفكير عصره ولا صالح له، فهو فى كلتا الحالتين ينسحب من الميدان ويحتمى وراء كلمة «الفن للفن»، ومن هنا كانت هذه الكلمة ليست شعارًا لعقيدة ما ولكنها مظهر لحالة معينة هى: الخوف.. أو العجز!

إن فنانًا يخاف على رزقه أو أمنه أو سلامته لا يمكن إلا أن يحتمى وراء الفن للفن وإن فنانًا كأهل الكهف يحاول أن يعيش بأفكار راح عصرها منذ مئات السنين سرعان ما يكتشف الهوة التى تفصله عن قومه، فيلوذ بهذا الكهف المظلم: الفن للفن!

وقد كان «بودلير» إذا نشبت الثورة فى فرنسا أصدر مجلة واقتحم المعركة بكل عنف، فإذا أخمدت عاد يكتب عن الفن للفن!

والأستاذ «توفيق الحكيم» فيما أعتقد ليس من حملة لافتة «الفن للفن» بدليل أننا نجد له آراء فى أغلب المسائل العامة من قضية المرأة إلى نظام الحكم.. نعم نختلف معه فى كثير من هذه الآراء، ولكن تلك قضية أخرى».