السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ماذا يقول ابن تيمية لله يوم القيامة ؟!

أيام بعد الرسول ـ الحلقة الثالثة

ماذا يقول ابن تيمية لله يوم القيامة ؟!

إغلاق باب الاجتهاد فى القرن الرابع الهجرى كان إحدى أكبر المشكلات التى واجهت المجتمعات الإسلامية فى تاريخها. 



قَبِل بإغلاق باب الاجتهاد أهل السنة والجماعة لأسباب مختلفة، يمكن الاقتناع بها نظرًا لظروف القرن الرابع، ونظرًا للنزاع السياسى الدينى فى وقتها أيضًا. 

لا يجوز الاعتداد بإغلاق باب الاجتهاد للآن. لا يمكن التعامل مع تلك القاعدة وسط مجتمعات حديثة، تظهر فيها الحاجة إلى مزيد من المرونة الدينية فى الأحكام الشرعية لحلول مشكلات عصور لم يشهدها الإسلام من قبل، ولم يعرفها الصحابة رضوان الله عليهم فى أزمنتهم، ولا اطلع عليها التابعون ولا تابعو التابعين فى معايشهم. 

غلق باب الاجتهاد يعنى تعليب الدين، ووضعه فى ثلاجات الزمن. 

تصقيع الدين فى ثلاجات الزمن، يعنى تجميده، ويعنى الحد من مرونته، وتوقيف قدرات النص على استيعاب مستجدات العصور الجديدة، بحلول شرعية جديدة مؤسسة على النص القرآنى. 

إغلاق باب الاجتهاد يعنى توقيف معاملات المسلمين فى العصور الحديثة على اجتهادات المسلمين الأوائل حتى القرن الرابع الهجرى. ويعنى الحد من حرية المجتمعات الحديثة فى فهم الدين، ويعنى إلزام المسلمين فى مجتمعاتنا بعد أكثر من 1440 سنة من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بالتعامل مع الأحكام الشرعية كما تعامل معها التابعون، وتابعو التابعين. 

يروى أن عمرو بن العاص لما دخل مصر، فوجئ بشبابيك فى بيوت المصريين فى حدث غريب لم يتوقعه، ولم يشهده من قبل.

فأرسل عمرو يستفتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فرد عمر وطلب إلى عمرو أن يدخل البيت، فإذا كانت النافذة تكشف ما فى الداخل.. فليهدمها.

(1)

الاجتهاد فى اللغة هو الجهد والطاقة والمشقة. وفى الاصطلاح هو «بذل الطاقة والجهد لمعرفة الحكم الشرعى من دليله». 

وفى تعريف آخر هو : «بذل الطاقة باستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية».  لما امتدت الفتوحات الإسلامية إلى قاصى الأرض بعد سنوات من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، ودخلت فى الإسلام مجتمعات جديدة، بأفكار جديدة، بمشكلات جديدة.. ظهرت أولى أزمات الفقه الإسلامي فى التعامل مع نصوص الأحكام القرآنية.

السبب أن فهم الصحابة رضوان الله عليهم لبعض الأحكام الشرعية فى زمانهم، ووفق ثقافة مجتمعاتهم، تعارضت مع أعراف البلاد المفتوحة، والتعاملات الاجتماعية التى كانوا يعرفونها قبل دخول الإسلام. 

كان الحل إما فى أن يرغم أبناء البلاد المفتوحة على فهم الأحكام الشرعية كما فهمها المسلمون الأوائل، وإما أن يلجأ الفقه إلى الاجتهاد فى الأحكام الشرعية لاستخراج ما يناسب أبناء البلاد المفتوحة. 

لذلك ظهرت القاعدة الفقهية المعروفة: «جواز تغير الأحكام مع تغير الأزمان». 

والصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم اجتهدوا بأحكام شرعية جديدة، واجتهد التابعون ومن بعدهم ونُقلت إلينا اجتهاداتهم.

التمسك بإغلاق باب الاجتهاد يعنى أن يبقى المسلمون فى العصور الحديثة غير قادرين على استخلاص أحكام شرعية جديدة للتعاطى مع مستجدات. ويعنى أن يقف المسلمون فى المجتمعات الحديثة عاجزين عن إعادة فهم النص، وإعادة تأويله، وإعادة تدبر الآيات القرآنية الشريفة، فلا يعلمون حكم الله فى وقائع كثيرة ومشاكل كثيرة لم يعرفها الصحابة ولا التابعون ولا تابعو التابعين!

يعنى، وببساطة، وبشىء من الطرافة أيضاً، أن الدعوة لإغلاق باب الاجتهاد بعد أربعة قرون من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، كانت هى نفسها اجتهادًا من بعضهم، للحد من قدرة المجتمعات الإسلامية بعدهم.. على الاجتهاد! 

طيب ده كلام!

(2) 

شرع الله الدين لصلاح المجتمعات، رغم اختلاف أهواء الأفراد أو الجماعات. لذلك قيل أن الإسلام عادات (معاملات) تصح بها الدنيا وعبادات يصح بها الدين. 

لكن «ابن تيمية» (فقيه السلفية)؛ قدم عادات العبادة على عادات المعاملة، بينما خالفه الإمام «الشافعى» والإمام «أبوحنيفة». 

الشافعى وأبو حنيفة كانا أكثر ميلًا للتيسير من «ابن تيمية». الشافعى مثلًا؛ رأى أن الهدف من التشريع الدينى هو صلاح المجتمع، وتنظيم العلاقات، ومنع التشاحن أو الافتئات على الحقوق بين أفراده. 

وفق هذا المنطق، تكون المعاملات مقدمة على العبادات، أو أولى من العبادات التى هى علاقة وصلة بين العبد وربه. 

ليس هذا تقليلاً من الفروض التعبدية، إنما تأكيد على القاعدة الشرعية بأن حقوق الله محل عفوه، بينما حقوق العباد هى محل القصاص. 

يقبل الله توبة عباده فى حقوقه سبحانه، لكن لا يقبل التوبة سبحانه وتعالى فى حقوق العباد إلا بعد قضائها، أو القصاص فيها.

القصاص فى حقوق العباد؛ يمنع الفوضى، ويردع انتهاك الحرمات، وفورة المجتمعات، والبلطجة والافتئات على ممتلكات الغير. 

آراء الإمام «الشافعى» كانت اجتهادًا أميل للتيسير طلبًا للمصلحة، وأكثر تفهماً لأسباب الحكم الشرعى. بينما كان ابن تيمية أكثر تشددًا، وأكثر ميلاً للتضييق، وأكثر إصرارًا على إنزال اجتهادات المسلمين الأوائل على مشكلات العصور الإسلامية حتى ولو كانت المجتمعات حديثة وعصرية. 

ضيّق ابن تيمية الدين، وأسس للعنف، وأسس لما أدى إلى عداوة بين المسلمين وغير المسلمين، وبين العرب وغير العرب. ماذا يمكن أن يقول ابن تيمية لربه يوم القيامة؟

السؤال الأهم: ما الذى يجعلنا نرجح اجتهادًا شرعيًا على آخر فى واقعة ما، إذا التبست الآراء وغمت الأحكام؟

الإجابة: المصلحة. فحيثما توجد المصلحة يوجد شرع الله. والمصلحة تتلاقى مع الفقه الأيسر، حيث ترفض المجتمعات الحديثة الفكر السلفى والتشدد الدينى، وترفض التضييق بأن باب الاجتهاد قد أغلقه من لا يملك. 

(3)

الاجتهاد تجديد. أو قل إن التجديد اجتهاد. التجديد فى اللغة هو: «الانتقال من حال قديم إلى حال جديد.. مع حفظ الأصل».. وفى تعريف ثانٍ: «هو البت فى أحكام الماضى، بأحكام الحاضر لغرض اقتضاه تغير الظروف».

لماذا نحن فى أشد الحاجة لتجديد الخطاب الدينى الآن وليس غدًا أو بعد غد؟

أولًا لتغير الزمان، وتغير الثقافات والأرضيات المعرفية لمجتمعاتنا. معارف وثقافة المسلمين فى عصر الآى باد والإنترنت، هى بالضرورة غير معارف وثقافة ووعى المسلمين فى عصر أبوبكر وعمر وعثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعًا.

وجدت حاجة المجتمعات الإسلامية إلى التجديد بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. رفض أبوبكر (رض) توريث جدة مات ابن ابنها فى حياتها، لأنه لم يجد لها نصًا. ولما راجعه اثنان من الصحابة ورثها بالفرض قياسًا على ميراث الأم لابنها المتوفى فى حياتها.

رأى الصحابة كان تجديدًا.. بينما كان رأى أبوبكر فى تلك الواقعة.. سلفيًّا جامدًا.

دخل الإمام الليث ابن سعد حالة جدال معروفة مع الإمام مالك ورفض كثيرًا من آرائه. أرسل الإمام الليث من مصر، للإمام مالك فى المدينة رسائل مشهورة بها كثير من العتاب، وكثير من اللوم.

قال الليث بن سعد: «أحصيت على مالك سبعين مسألة قال فيها برأيه» قبل أن يعترف مالك أنه أخطأ كثيرًا.

اعترض الإمام الليث على قول مالك بأن الجنين قد يستقر فى بطن أمه ثلاث سنوات قبل الولادة، ورأى الليث أنه مخالفة للعقل، ومخالفة للواقع. قال الليث إنه لا يعتد بهذا الرأى، لأن الشرع لا يأمر بما يخالف العقل.

رأى الليث أن إفتاء مالك هذا قد يفتح الباب أمام فساد نساء يغيب عنهن أزواجهن لموت أو طلاق أو سفر. بعد فترة تنبه الإمام مالك لرأى الليث، فعدل عن فتواه.

واختلف الليث ومالك فى الكفاءة فى الزواج. حكم مالك بألا يعتد بزواج القريشى إلا بقريشية.. ولا عربى إلا بعربية. لكن نبهه الإمام الليث إلى أنه يكفى بشرط الإسلام. قال إن كل مسلم كفؤ لكل مسلمة، والقول بغير ذلك مخالف للقرآن الكريم الذى قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

وقضى الإمام بجواز شهادة شاهد واحد مع يمين صاحب الحق، لأن الأصل أنه لا شهادة إلا لرجلين عدلين أو رجل وامرأتين. 

وقضى مالك وأهل المدينة فى مؤخر صداق النساء، بأنها متى شاءت الزوجة طلبت مؤخر صداقها ويلزم الزوج بأدائه حتى ولو كانت العلاقة الزوجية مستمرة. فى حين أفتى الإمام الليث بأنه لا يجوز للزوجة مؤخرها إلا بطلاق أو وفاة.

وفى الجنايات، أجاز الإمام مالك، ضرب الجانى لإجباره على الاعتراف بالسرقة، حماية للأموال المسروقة وعودة الحق لأصحابه. وصفها مالك بالمصلحة العامة، وقال إن المصالح العامة أولى بالرعاية من المصالح الشخصية.

فأرسل الإمام الليث إلى مالك يسأله عن الواقع لو ثبتت براءة المتهم؟

أصر الإمام الليث على أن حماية المتهم حتى تثبت إدانته، مقدمة على اكتشاف الجريمة واكتشاف المتسبب فيها.

وأفتى مالك أنه فى جرائم النفس بجواز قتل جميع الشركاء ومعاملتهم كالقاتل الأصلى، حسب فهمه لمعنى آيات القصاص فى القرآن الكريم. لكن الإمام الليث رأى أن فى فتوى مالك تلك مخالفة كبرى لروح القرآن الكريم. 

الخلاف بين الإمامين الليث ابن سعد ومالك نموذج واضح على جواز التباين فى الاستدلال بالآيات القرآنية لاستخراج الأحكام الشرعية. وهو مثال أيضًا على جواز إعادة تأويل الحكم الشرعى، طلبًا للمصلحة، وصيانة لتطلبات المجتمعات الإسلامية.

تعامل الإمام مالك مع أحكام النص القرآنى حسب بيئته وفهم مجتمعه فى المدينة بينما تعامل الإمام الليث مع النص هو الآخر حسب أعراف المجتمع المصرى، وشكل علاقاته، وظروفه.

فى أغلب المسائل كان الإمام الليث أكثر حرية ورحابة فى التعامل مع النص، لذلك كانت أحكامه أقرب لحاجات الناس فى عصره. لذلك استطاع أن يمهد طريقًا فقهيًا خاصًا جمع بين مدرستى الرأى فى العراق، وأهل السنة فى المدينة.

يروى أن الإمام الليث تكلم مرة فى فتوى، فقال له رجل من الجالسين: فى كتبك غير هذا. قال الإمام الليث: فى كُتبنا ما إذا مر بنا هذبناه بعقولنا وألسنتنا.

فى مسائل أخرى ظل مالك على رأيه وظل الإمام الليث على رأيه، فلا خرج مالك من الدين.. ولا ثار الإمام الليث وذهب مغاضبًا.

ألف باء التجديد، فى الاستفادة من مرونة الدين فى العدول عن أحكام السلف الشرعية، لأحكام جديدة يقرها الخلف، بإعادة النظر فى المقصود من النص.. وإعادة فحص السنن.. والحرية فى فحص المنقول.

دون هذا.. فلا تجديد .. ولا يحزنون.