السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
عصا «توفيق الحكيم» بدلاً من حماره!

عصا «توفيق الحكيم» بدلاً من حماره!

فجأة توقفت سلسلة الحوارات الممتعة التى دارت بين الأستاذ الكبير «توفيق الحكيم» وحماره، الذى ظلا معًا سنوات طويلة يتحاوران ويتناقشان ويتفقان فى أمور، ويختلفان فى أمور أخرى، ثم حدث ما لم يتوقعه «توفيق الحكيم» حينما أخبره الحمار ذات يوم أنه قرر الاشتغال بالسياسة قائلاً له: «إياك أن تثبط عزيمتى أو تحاول منعى أو تتدخل فى شئونى أو تعرقل مشروعاتى أو تفسد تفكيرى، أو تبرد حماستى، أو تكتم شعورى أو تخمد نشاطى أو تطفئ لهيبى!



وأصبح «توفيق الحكيم» وحيدًا ولم يجد غير «عصاه» التى تلازمه منذ كان وكيلا للنيابة فى مدينة طنطا ويقول: «عصاى لم تعصنى، بل تبعتنى وأطاعتنى، إنها ليست مثل «حمارى» الذى تركنى وجرى إلى ميدان السياسة وانغمر فيها فلم يعد فى مقدورى العثور عليه أو تمييزه من بين السياسيين»!

وهكذا استبدل الحكيم محاوراته الممتعة مع «العصا» ابتداء من عام 1946 وحتى عام 1951، ثم أصدرها فى كتابه البديع «عصا الحكيم»!

توقفت طويلا فى هذه الحوارات عند موضوعات الفن والأدب والفكر وعمرها الآن ما يقرب من 75 سنة تقريبًا، وعن «الريحانى الحى» دار هذا الحوار:

قالت العصا: كنت تصغى أمس الأول إلى شريط سجل عليه فصل للريحانى، وكان التأثر باديا عليك، لا يستطيع الضحك أن يحجبه وكانت شفتاك تهتزان بكلمات ترى ما هى؟

قلت: لعنات كثيرة كنت أستنزلها فى سرى على من أهمل فى تسجيل أعمال هذا الفنان.. وبركات كنت أدعو بها لمخترع هذا الجهاز العجيب! اختراع يكاد يلغى الموت إلغاء، فهاهو ذا «الريحانى» يضحك ويضحكنا، ويبدع ويمتعنا وهو فى قبره عظام نخرة! لقد سجل الشريط صوته، وهو الآن فى الأموات وسجل معه أصوات الناس من جمهوره، وهى تضج بالضحك والإعجاب، وأكثر هؤلاء الناس اليوم ولاشك أحياء يرزقون، ولكن السامع يخيل إليه أن هذا الميت أكثر حياة من هؤلاء الأحياء!

ولست أعنى بالحياة هنا الحياة المعنوية، بل أقصد الحياة المادية نفسها، لقد كان شعورى أن الريحانى حى بكل معنى الحياة، أنه يذيع مسرحيته وأنا أسمع اليوم وهو فى القبر كما كان يفعل بالأمس وهو فى مسرح «ريتس»، لا أكاد أشعر بفرق، كل الفرق هو بالنسبة إليه هو أنه هو الذى لا يستمتع بتصفيقنا أو بإعجابنا، وأنه مستمر فى منحنا فنه، ونحن انقطعنا عن توصيل شكرنا إليه.

إنه القادر على التأثير فينا، ونحن العاجزون عن التأثير فيه!

قالت العصا: لئن كانت الحياة فعلاً وتفاعلاً وأثرًا وتأثيرًا، فهو بالنسبة إلينا الحى ونحن بالنسبة إليه الأموات».

وحوار آخر عنوانه «الفن واسع والعقول ضيقة»، جرى كما يلى:

قالت العصا: ما هى مهمة الفنان؟ أهى أن ينقل الناس إلى دنياه، أم هى أن يصور دنيا الناس للناس؟!

قلت: دعينا الآن من مهمة الفنان، ولننظر فى أمزجة الناس.. فإن فيها العجيب! كانت فرقة الشيخ سلامة حجازى تجوب الحضر والريف بروايات «هملت» و«روميو وجولييت» و«تليماك» فتلقى النجاح الساحق، فذهب يومًا إلى الريف برواية عصرية تمثل «العمدة» و«شيخ الخفراء» و«المأذون» فلم تلق هذه الرواية نجاحًا عند أهل الريف!

فقد سمعوا لغتهم ورأوا صورهم على المسرح وخرجوا يقولون ساخطين: «أهذه فرجة»؟! هذا شىء نسمعه هنا ونراه فى كل يوم!

قالت العصا: ولكن هذه الرواية الريفية قد تلقى النجاح الباهر فى العواصم والمتحضرين؟

قلت: لا شك فى ذلك.. لأن من أهل المدن من يحب أن يرى صورة أهل الريف كما أن العكس صحيح، وهنالك من الناس من يفضل أن يرى صورته فى المرآة.. ومنهم من يؤثر مشاهدة الصور الغريبة عليه!

قالت العصا: إن المشكلة إذن هى فى اختلاف أمزجة الناس؟!

قلت: إنها ليست مشكلة، بل هى شىء طبيعى، والخطأ الحقيقى هو مطالبة الفنان بمراعاة مزاج واحد من بين هذه الأمزجة، فى حين أن الفن يجب أن يتسع نطاقه ليشمل كل هذه النزعات فى الإنسان.. فلا بد أن يكون هناك الفنان الذى يصور دنيا الناس للناس ليروا أنفسهم فى عمله فيزدادون معرفة بحقيقتهم، كما أنه لا بد أن يكون هناك الفنان الذى ينقل الناس إلى دنيا أخرى من صنع خياله ليضيفوا إلى حياتهم المألوفة حياة جديدة يثرون بضمها ذهنيًا ونفسيًا!

قالت العصا: نعم، إن الفن واسع، ولكن عقول الناس هى الضيقة.

وعنوان ذكى هو «مبهر الفن» دار الحوار بين العصا وتوفيق الحكيم:

قالت العصا: ما حقيقة العلاقة بين المال والفن؟ وبماذا تفسر تصرف فنان عظيم مثل «بيتهوفن» ومعروف بالخلق الكريم هذا التصرف الغريب إزاء تعهداته، فقد قيل إنه اتفق مع د ار للنشر الموسيقى على تأليف السيمفونية التاسعة لقاء مبلغ من المال، فلما مضى فى تأليفها ورأى اتساع نطاقها استصغر المبلغ المتفق عليه، وتعاقد مع دار أخرى بمبلغ أكبر ضاربًا عرض الحائط بعقده الأول ثم بماذا تفسر تصرف شاعر عظيم مثل «المتنبى» الذى انتقل من مدح سيف الدولة إلى مدح كافور تبعًا لما طمع فيه من جائزة أكان المال هو الهدف الأول عند هذين الفنانين العظيمين؟!

قلت: لا أعتقد مطلقا أن المال كان هدفهما الأول، ولا يمكن أن أعتقد لحظة أن المال وحده يمكن أن يكون الهدف الأول لفنان حق، إن الكرامة الفنية هى سر تصرف «بيتهوفن» و«المتنبى»، احترام الفنان لعمله هو الذى جعل «بيتهوفن» يقدر جهده أعلى تقدير، وجعل المتنبى يرى شعره وفنه خليقين بأسمى جوائز الملوك، كرامة الفن فى نظر الفنان تدفعه إلى أن يصر على طلب أبهظ الأجور.. إنه نوع من الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالفن، لا دخل له بحب المال فى ذاته.

أما الفنان الذى يسعى إلى المال فى ذاته، فإنه يسلك طريقًا آخر.. هو الطريق المعروف لجمع المال، وهو البحث عما يرضى غرائز الجماهير.. ووضع عمله فى قالب المشروع التجارى.. واستغلاله للجهود الأخرى فى صيغة من الصيغ المألوفة عند الشركات وأرباب الأعمال!

قالت العصا: نعم، فرق بين من يجعل فنه كالعروس يطلب لها المهر الغالى وبين من يجعل عمله كالعاهر تأتى له بالمال من أى طريق!

الفنان مخلوق محير حول هذه المعضلة دار الحوار الممتع على النحو التالى:

قالت لى العصا: لو سألت الفنان لماذا ينتج؟ لما أجاب بجواب واحد فى كل الأحوال، فهو فى شبابه عندما تسيطر عليه الأحلام وتغذى وجوده الأوهام ولا يعرف بعد من الحياة إلا جانبها البراق الخداع، ولا يحمل من تكاليفها ما يبهظ أو يثقل ولا يؤمن من حقائق الدنيا بغير الكلمات الكبيرة، ولا يرى من القيم غير المعانى العظيمة فإنه يقول: أنتج من أجل المجد!

فإذا سألته فى كهولته وقد تبددت الأحلام، وانقشعت الأوهام، وظهر من الحياة وجهها الحقيقى فاترا ساخرًا، وأقبلت الدنيا تلقى على منكبيه الأثقال والتبعات، وخلعت الكلمات الكبيرة سحرها، وزال عن المعانى العظيمة رنينها، وخيل إليه أن جهده باطل وأن الناس من حوله يجدون وهو الهازل، فإنه يقول: أنتج من أجل المال!

فإذا أعطيته المجد والمال، ذلك المجد الذى لا مطمع بعده لطامح والمال الذى لا مطمع بعده لطامع، وألفى نفسه مسموع الكلمة مرهوب الجانب، بإشارة من يده يستطيع أن يقيم الناس ويقعدهم ويغير ما بهم ويصلحهم.. ووجد نفسه فى قصور مرفوعة القباب عامرة بالجوارى والجنات، تحت إمرته أكثر من يخت يجوب به البحار والأنهار، وأكثر من هواية تشغله، ولعبة تلهيه، فإنك ترى منه بعد ذلك العجب الأكبر.. إنه ينتج أيضًا!

فإذا سألته لماذا؟ ولمن ينتج هذا الفن؟ فإنه يقول: لا بد من أن أخلق ولا تسألنى لماذا؟ ولا لمن؟!

لا توجد إذن غير حقيقة واحدة فى كل ذلك: هى أن الفنان قد خلق ليخلق.. ومهما تكن الأسباب التى ينتحلها أو تنتحل له تبريرًا لعمله، فإن السبب الأكبر هو أن قبسًا حل فيه من صفة الخالق الأعظم».

فى كل الأحوال كان توفيق الحكيم مبدعًا حقيقيًا، سواء حاور حماره الذى هجره أو «العصا» التى لازمته حتى وفاته، وأدارت معه أمتع وأجمل الحوارات فى جميع شئون الحياة!