الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حوارات توفيق الحكيم من الحمار إلى العصا!

حوارات توفيق الحكيم من الحمار إلى العصا!

من أجمل وأعمق وأصدق الحوارات التى قرأتها، تلك الحوارات التى دارت بين الأستاذ الكبير «توفيق الحكيم» وحماره، ثم عصاه الشهيرة!



وأظن أن من أجمل وأعمق كتبه فى هذا الصدد، كتبه «حمار الحكيم» و«حمارى قال لى» ومسرحية «الحمير»!

أكثر من هذا أن توفيق الحكيم يهدى كتابه إلى الحمار قائلاً: «إلى صديقى الذى ولد ومات وما كلمنى، ولكنه علمنى»!

سنوات طويلة ظل الحمار يحاور ويناقش توفيق الحكيم، الحمار يسأل والحكيم يجيب بكل شجاعة، ثم فجأة ظهر فى حياة الحكيم محاور آخر أكثر شقاوة وهو «عصا» الحكيم، ومن خلاصة هذه الحوارات البديعة أصدر كتابه «عصا الحكيم فى الدنيا والآخرة»، وفى مقدمة الكتاب يحكى الحكيم قصة العصا تحت عنوان «ابنة من الخشب» فيقول:

«تلك هى عصاى.. عرفتها أو قل حملتها منذ نحو ربع قرن «الكتاب صدر قبل ثورة يوليو 1952»، منذ أن كنت وكيلا للنيابة فى مدينة طنطا، منذ ذلك التاريخ وهى تلازمنى كأنها جزء من ذراعى، تنتقل معى وتسير من مصير إلى مصير، لا تضجر منى ولا تزهد فى صحبتى، لو أنها كانت «ابنة» من لحم ودم لقالت لى اليوم «دعنى أنا لست من جيلك! والتفتت إلى زوجها وبيتها»!

ولكن عصاى لم تعصنى، بل تبعتنى وأطاعتنى وقاسمتنى الأيام البيض والأيام السود!

إنها ليست مثل «حمارى» الذى تركنى وجرى إلى ميدان السياسة وانغمر فيها، فلم يعد فى مقدورى العثور عليه أو تمييزه من بين السياسيين!

لا إن عصاى معى دائمًا قانعة بحياتها الهادئة المتواضعة بجوارى تسمع كل ما يدور حولى، وتهز رأسها فى يدى عجبًا أو سخرًا أو صبرا، وتكتم كثيرًا وتهمس قليلا.. ما من شك عندى فى أنها تريد أحيانًا أن تتكلم، ولكنها تصمت أدبًا لأنى لم أدعها إلى الكلام، لقد لحظها الكثيرون من قديم، وأشار إليها أحيانًا بعض الكاتبين والراسمين وحياها بعض الأصدقاء بقولهم لى: - أهى دائمًا معك لا تفارقك!

نعم هى بعينها، لا أبتغى بها بديلاً ولو كان من الذهب الإبريز.. واعتلت ونخر فيها الداء، ولكن أتناولها بالعلاج، والخوف على حياتها يخلع قلبى، حتى كثرت فى جسدها المسامير.. إنها يجب أن تعيش لأننى لا أستطيع أن أتصور يدى بدون يدها.. تلك التى عاشت معى خير سنوات العمر».

ويختتم الحكيم مقدمته بقوله: أظن من حق هذه العصا ومن العرفان لها ببعض الجميل، وقد نزلت منى هذه المنزلة وبلغت من الدهر هذه السن، أن أصمت أنا وأقدمها هى.. وأدعوها للكلام هنا، تقول لنا كل ما يجيش بصدرها من شئون الناس والفكر والمجتمع». والآن إلى بعض حوارات الحكيم وعصاه، وهذه واحدة بعنوان «عصير الذهن».

قالت العصا: هل رأيت هذه المكتبة العامرة بالكتب فى أشهر ميادين القاهرة؟

كيف تحولت أخيرًا إلى حانوت للمرطبات؟ إن صاحبها هو صاحبها لم يتغير، ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من «كتبى» إلى «شربتلى»، وعندما سئل فى ذلك قال:

الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن، إنهم يريدون عصير الليمون!

قلت: هذا صحيح مع الأسف.. وهى ظاهرة خطيرة تستحق العناية والعلاج، فإن انصراف الناس عن غذاء العقل نكبة كبرى لأمة فى سبيل التحضر، وما قيمة التعليم فى أمة إذن، إذا كانت نتيجته تخريج زبائن للمشارب لا للمكاتب؟

إن أبقى درس وأهم كسب للطالب فى المدرسة ليسا فى تلك المعلومات المحددة التى ستنسى حتما بعد حين، ولكنها فى غرس ملكة المطالعة التى ستلازمه فى كل حين، لا خير ولا نفع فى أرقى المدارس والجامعات إذا خرج منها الطلاب يلعنون كتبهم ويختمون بالشمع الأحمر على رءوسهم، بينما الطالب الذی ينشأ فيه حب المطالعة والاطلاع تنشأ فى عين الوقت جامعة كبرى فى نفسه تزوده بالمعارف المتجددة طوال أيام حياته، ذلك واجب الدراسة الأول: أن تعلمنا حب القراءة.. وتمرن عضلاتنا الفكرية على هضم أغذية العقل ثم تدفعنا إلى الحياة نزدرد ثمرات الذهن!

قالت العصا: حقا إن الإنسان يولد زبونًا بالفطرة لعصير الليمون، ولكنه لابد أن يعد إعدادًا ليصير زبونًا لعصير الذهن»!

وحوار آخر له أكثر من دلالة بعنوان «هل المداد هباء» جرى على النحو التالى:

«قالت العصا: يخيل إلىّ أن الكتابة هى أَعف وسيلة للتأثير فى المجتمع، وذلك أن من لديه فى الغالب حسن الاستعداد لأن يسمع نجده فى أكثر الأحيان لا يقرأ ومن يقرأ فهو قلما يسمع! ولو كان فى الكتابة نفع لرأينا المجتمع قد تغير منذ أمد طويل.. ولكن كل قارئ يقرأ وكأن الكلام لا يعنيه! وإذا فطن فإنه يبتسم ويطوى الورق ويقول «كلام» أو يقول «تمام» ثم ينسى كل شىء بعد حين لماذا؟!

ولمن تجهدون أنفسكم إذن يا معشر الكتاب فى إهدار هذا المداد الذى لا تبتلعه أرض ولا نفس؟!

قلت: حقًا هو جهد لا يرى له أثر، فالماء يروى الشجر وتحصد منه بيدك الثمر، ولكن المداد ماذا ينبت؟ أين هو الثمر الذى نراه بأعيننا قد أينع فى الناس بفعل المداد والقلم؟ إنه لعمل مجحف ميئس، ومع ذلك يكابده صاحبه ويصر عليه وهو موقن أن شيئًا لن يتغير وأن نفسًا لن تتحول على الأقل بالسرعة التى تشعره بلذة النجاح، ولكنه يمضى فى الكتابة وينسى النتيجة.. إلى أن يعتاد العمل دون أن يسأل عن الأثر وكأنه ثور الساقية يدور بها مغمض العينين لا يدرى أذهب ماؤها فى الهواء أم ذهب فى الغيطان!

قالت العصا: ربما كان هذا هو السبب فى قصور القلم فى الظاهر وهباء مداده.. أن غيطان النفوس تحتاج إلى أجيال حتى تصل إلى أغوارها مياه الأفكار.. وتهيئ أديمها للنبت والإثمار! وعن «استقلال الشخصية» يدور حوار ممتع بين الحكيم وعصاه كالتالى:

«قالت العصا: من المشكلات التى تصادف الآباء والمربين فى عصرنا الحاضر مشكلة تكوين «الشخصية» فى النشء، فقد انتشرت بعض الآراء التى تقول بترك «الصغار» يفعلون ما يشاءون دون رابط أو ضابط من أوامر ونواهٍ.

حتى يشبوا وقد تشربوا بروح الحرية واعتادوا تحمل المسئولية.. فهل هذا هو الطريق المستقيم فى تربية النشء تربية استقلالية؟!

قلت: ما من شك فى أن الحرية وتحمل المسئولية هما الدعامتان اللتان تقوم عليهما الشخصية، وأن حرمان النشء من حريته واستقلاله فيه إلى حد كبير تحطيم لشخصيته، غير أن بعض الآباء والمربين يروون أن هذه الحرية وهذا الاستقلال قد انقلبا عند بعض النشء إلى فوضى وعبث و«قلة أدب»، ويفضلون العودة بالصغار إلى النظام والصرامة والطاعة العمياء.

فى الحق أن الخلاف راجع إلى سوء فهم كلمات «الحرية» و«الاستقلال»، و«المسئولية»، ذلك أن المطلوب لتكوين شخصية النشء ليس حرية العمل، بل حرية التفكير، فليست الشخصية المستقلة البارزة القوية هى التى تفعل ما تريد.. لأن فعل الإنسان لما يريد هو الفوضى، ولكن الشخصية المستقلة هى التى تفكر دائمًا كما تريد لا كما يراد لها.. اليوم الذى نعلم فيه النشء كيف يقرأ ويدرس لا ليحشو رأسه، بل ليفكر برأسه، هو اليوم الذى نستطيع فيه أن نقول إننا غرسنا فى روحه استقلال الشخصية!

قالت العصا: حقًا إن استقلال الشخصية ليس فى حرية العمل، بل فى حرية التفكير».

وعن أصدقاء الرخاء، يدور الحديث الفلسفى بين العصا والحكيم هكذا.

قالت العصا: ما الذى نرجوه من الصديق؟ وما الذى ينبغى له أن يفعل حتى يكون جديرًا بأن يوصف بالوفى، أيحسن به أن يقف إلى جانبك فى وقت الشدة وأن يختفى عنك وقت الفرج؟! أم يخلق به أن يقبل عليك وقت الفرج ويختفى عنك وقت الشدة؟!

قلت: هناك فرق بين ما نتعلمه فى الكتب وما نتعلمه فى الحياة.. أما الكتب فهى تقول لنا إن الصديق الحق هو الذى يلازمنا وقت الشدة ويؤازرنا فى الضيق، فإذا جاء الفرج ابتعد عنا حياء وخشية من أن يثقل علينا أو يوحى إلينا بأنه ينتظر على وفائه ثمنًا، أما الحياة فهى تقول العكس، وترينا الصديق المرموق أنه ذلك الذى يختفى عنك وأنت فى شدتك، أو يشغل عنك باكتساب المغانم فى صحبة غيرك، حتى إذا ما ابتسمت لك الدنيا وانقشع غيمك ظهر يجرى نحوك مهللاً مكبرًا، ومكث بجوارك الليل والنهار ملازمًا مؤازرًا! قالت العصا: ومن الذى له الغلبة؟

قلت: العجيب أن الغلبة لذلك الذى يعرفنا ويلازمنا وقت الرخاء، ولعل هذا هو الطبيعى الذى لا عجب فيه، فالغلبة دائما للجرىء حتى وإن كانت الجرأة على معنى الصداقة!

قالت العصا: وهل يستطيع الإنسان أن يحترم صديقًا من هذا الطراز أو يعتمد عليه؟ ولكن من يدرى؟! لعل الإنسان يحب الصداقة التى تسره أكثر من الصداقة التى يحترمها!

وللحوارات بقية!