الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ضحايـا وخطايـا دنيـا الأدب والصحافـة!

ضحايـا وخطايـا دنيـا الأدب والصحافـة!

لا توجد مناسبة للكتابة عن الأديب الرائع الأستاذ سليمان فياض، ربما كانت المناسبة أننى وجدت نفسى غارقًا لشوشتى مع بعض كتبه الرائعة، وفى مقدمتها كتابه «أصوات» و«أيام مجاور» و«العيون».



كتابة رائقة لا ابتذال فيها ولا حزلقة ولا ادعاء، أدب حقيقى بلا تزييف!

أما رائعته «كتاب النميمة» فهو شىء يدعو للدهشة والإعجاب معًا، فالكتاب عبارة عن نماذج وأنماط من الناس عامة والكاتبين خاصة الذين عرفهم عن قرب خلال رحلة العمر، وكما يقول، وفى الوقت نفسه أجزاء من سيرة حياتى الشخصية، فأنا دائمًا راويها وأحد أطرافها وشهودها».

 

«سليمان فياض» عمل بالصحافة وشاهد عن قرب حكايات ومواقف لمشاهير الصحفيين والأدباء، وفى كتابه ذكر أسماء البعض، ورمز للبعض الآخر برموز والكتاب كله بشخصياته وحكاياته أقرب ما يكون إلى دراما صحفية من طراز فريد.

ومن وسط مئات الحكايات استوقفتنى بعضها لغرابتها أو لطرافتها أو ربما لأنها تفسر وتشرح موقفًا كان غامضًا فى وقتها!

ويحكى الأستاذ «سليمان فياض»: فى حياتنا المصرية الثقافية «كتبة» تعلموا تعليمًا متوسطًا، بعضهم موهوب وصار كاتبًا عصاميًا قديرًا ثقف نفسه بنفسه, وأكثرهم غير موهوب ووقف به تعليمه المبتور وانعدام موهبته دون أعتاب الثقافة والقدرة على الكتابة، ومع ذلك صاروا كتبة، يحسبون بين الكتاب، ولكثرتهم وإلحاحهم بالإعلام والزن وابتذال النفس وضعف الكرامة مشهورون بين قراء متوسطى الحال مثلهم داخل الوطن وخارجه!

وحين ولى «يوسف السباعى» مؤسسة دار الهلال، سارع بإصدار مجلة «الزهور» الأدبية كملحق لمجلة الهلال لينشر فيه الأدباء الشبان فى ذلك الزمان أشعارًا وقصصًا ونقدًا أيضا مما لا يرقى مستواه للنشر بمجلة الهلال!

وربما من باب الفضول ولمعرفة ما يجرى حولى فى الحياة الثقافية اشتريت عددًا من الزهور وحرصت حين انفردت بنفسى أن أحتمل قراءته من بدايته إلى نهايته، واستوقفتنى قصة لشاب لايزال ناشئًا فى الساحة الأدبية لم أكن أعرفه بعد، فوجئت بجرأة ذلك الشاب، وبجهل المسئولين عن تحرير الزهور بالأدب العالمى، كانت تجربة قصته وأحداثها وشخوصها مسروقة ومحتذاة عن قصة «تشيكوف» الرائعة «الأسى» والمترجمة إلى العربية مرارًا، وكانت قصة «تشيكوف» تحكى عن مزارع روسى فقير يسحب زوجته المريضة على زحافة فى الثلج من القرية إلى المدينة كى يعالجها الطبيب، وكان يحمل معه صندوقًا من الخشب نقشه بيده نقشًا بديعًا هدية للطبيب المعالج!

قلت فى نفسى: لص قصص عديم الحيلة فقير الموهبة، ضحل التجربة واللغة يطمح إلى أن يكون شيئًا!

ونسيت ذلك الأمر إلى أن التقيت بلص القصص، قدمه لى صاحب فقلت للص القصص على الفور: يا ابنى.. من تشيكوف؟ ومن واحدة من أشهر قصصه فى العالم وأروعها، وتحول قصته الرائعة إلى «مسخ».. كيف؟!

ابتسم لص القصص كلص وقال لى مراوغًا بتبجح دون أن يظهر أى ذعر: توارد خواطر، أنا لم أقرأ قصة تشيكوف هذه!

تأملته لحظة وأيقنت عندئذ أن مثله سوف ينتشر كحشائش المزارع ويغير على وجهه الأقنعة!

وتحت عنوان «هواية كاتب» يروى الأستاذ «سليمان فياض» حكاية الصحفى الذى يكتب للآخرين مقابل مبلغ مادى، وكتابة سيناريوهات أيضا لا يظهر عليها اسمه، ويرمز سليمان فياض له بحرف «م»، فيقول:

شاهدت فى دور السينما أفلامًا جيدة عن روايات لكاتب شهير أدهشنى أن يكون كاتب السيناريو لها هو «م. ل»، وكان سبب الدهشة معرفتى بأنه كاتب ردىء، كان يقدم لنا ونحن نعمل بمجلة «ب» موضوعات صحفية غير متماسكة مليئة بأخطاء الكاتبين الصغار والناشئين، وكان طبخ موضوعاته يجهدنا غاية الإجهاد، ولقيت الصديق «م» وسألته فى دهشة:

- كيف يمكن أن يكتب «م. ل» مثل هذه السيناريوهات؟ من أين له هذه الخبرة وتلك القدرة المفاجئة؟

فابتسم «م».. وقال وهو ينفخ دخان سيجارته بهدوء شديد: أنا كاتب هذه السيناريوهات؟!

صحت، لماذا؟! فانفجر ضاحكا وقال: هو إيه!!

صحت: أنت ترتكب جريمة تصنع منه كاتبًا وستقدم له يومًا بسبب ذلك منصبًا يتحكم به فى رقاب البعاد!!

فقال بهدوء: إن لم أكن أنا سيجد غيرى ويحقق ما سوف يصل إليه، نلت منه ألف جنيه عن كل سيناريو بعيدا عن الضرائب، ولو استطعت تسليك هذه السيناريوهات لنفسى وهذا عسير جدا لفعلت ودفعت الضرائب!».

وحكاية أغرب من الخيال يرويها «سليمان فياض» جرت وقائعها سنة 1959، حيث أصبح بلا عمل بعد توقف مجلة البوليس التى كان يرأس تحريرها الأستاذ - سعد الدين وهبة.. ويحكى قائلا:

وجدت نفسى وأنا عضو بنقابة الصحفيين بلا عمل، حتى كلمنا - أنا ومحفوظ عبدالرحمن - الصديق الراحل «سعد الدين وهبة» للعمل معه فى صحيفة الجمهورية، لكننى لم أمكث بها معه أكثر من ستة أشهر!

وألحقنى الصديق الراحل الشيخ «محمد الغزالى» للعمل معه بوزارة الأوقاف سكرتيرا للجنة الدفاع عن الإسلام، كان يرأس هذه اللجنة الشيخ «محمد سابق»، وكانت صحيفة «الأهرام» قد فرغت لتوها من نشر رواية «أولاد حارتنا» الأمثولة لنجيب محفوظ، وحضرت بحكم عملى مناقشة سرية فى اجتماع لهذه اللجنة، أعتقد الآن أنها لا تقل شأنا عن مناقشات محاكم التفتيش!

ولقد آثر الشيخ «الغزالى» أن يكتب بيده محضر هذه الجلسة،ويصوغ بيده قرار هذه اللجنة الذى سمح لنفسه أن يشق قلب «نجيب محفوظ» وهو كسائر القلوب لايعلم ما فيه أحد سوى الله.

ورغم هول ما أراه أمسكت غضبى فى نفسى ولذت بالصمت، وأشرفت بحكم عملى على طباعة تقرير هذه اللجنة عن «أولاد حارتنا» وسللت نسختين من هذا التقرير وكان اليوم يوم خميس، وسارعت فى يوم السبت التالى بالاستقالة من وزارة الأوقاف!!

يوم الجمعة ذهبت عصرًا إلى مقهى ريش، ولسبب لا أعلمه وجدت.. نجيب محفوظ.. جالسًا وحده قبل موعده المعتاد إلى منضدته الأثيرة على رصيف المقهى، أعطيته نسخة من التقرير، فقرأه على مهل وقلبه ظهرًا لبطن كأنه يرى عجيبة من عجائب الدنيا، ثم أطبق ورقة التقرير ووضعها فى جيبه للذكرى.

ورأيت وجه نجيب شاحبًا، ظننت شحوبه خوفًا وتوجسًا لشر مستطير لكننى فوجئت به يقول لى: معنى ذلك أن هذه الرواية لن تطبع!

وتنهد نجيب وقال: لن تنشرها إذن مكتبة مصر (الدار التى تتولى نشر كتبه).

أدركت مدى شجاعة «هيكل» حين نشر هذه الرواية مسلسلة فى العدد الأسبوعى للأهرام، وقلت مؤكدًا لنجيب:

- مع ذلك يمكن نشرها ككتاب خارج مصر فى بيروت مثلا، يمكن أن تنشرها دار الآداب.. وسيرحب سهيل إدريس - صاحب الدار - لو وافقت يا عم نجيب سأتصل به!

فقال لى فى الحال: يا ليت!

كتبت رسالة أرسلتها بالبريد المستعجل إلى «سهيل إدريس» فأبلغنى عن طريق عديله العزيز «فتحى نوفل» بموافقته وطلب منى أن أطلب من «نجيب» ألا يتصرف فى أولاد حارتنا وسوف يحضر إلى القاهرة خلال أسبوع على الأكثر!

وبالفعل أقبل «سهيل» مسرعًا إلى القاهرة، وتعاقد مع «نجيب» على نشر أولاد حارتنا، ومن حسن الحظ أن هذا التعاقد عن «أولاد حارتنا» بل النشر لها قد تم قبل أن يصدر قرار من جهة ما فى مصر بعدم طبعها، مع أنها كانت قد طبعت ونشرت مسلسلة بالأهرام، ومع أن آلافا من القراء كانوا قد جمعوا بالفعل صفحاتها المطبوعة بالأهرام أسبوعًا بعد أسبوع!

ويختتم الأستاذ «سليمان فياض» الحكاية بقوله:

ورغم قرار الحظر وقرار التكفير من لجنة الدفاع عن الإسلام، وهو قرار لم ينشر، وربما كان قد أرسل إلى من يعنيهم الأمر من المسئولين، وغير المسئولين، فقد كانت نسخ رواية أولاد حارتنا تتسلل طبعاتها إلى مصر، وكان من يريدها يحصل عليها بثمن مضاعف، ومن يعجز عن الثمن يستعيرها للقراءة من سواه، ويعيرها بدوره لغيره، ولم يكن تصوير الفوتوكوبيا قد عرف طريقه بعد إلى مصر..».

وما أكثر الحكايات المدهشة والعجيبة فى دنيا الصحافة والأدب!