الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«جـوجـان» وشـارع الحــلويـات

(1)   مُنذ صغرى وأنا أسمّى شارع «المُبتديان» بشارع «الحلويات»، فبدايته «حلاوة» ونهايته «حلاوة» أخرى.



بدايته محل  «سوبيا الرحمانى» وطعمها (المزز) الذى لا يُنسَى، مرورًا بحلاوة رائحة أحبار الطباعة التى تنساب إلى روحك بهدوء من داخل «دار الهلال» العريقة، مرورًا بمنفذ بيع إصداراتها الذى يتوارى خلف الأشجار حزنًا على أفول نجمه.

ثم فول «عم أحمد» وعربته المُبتكرة أمام مبنى جريدة «المصرى اليوم» ثم قهوة «الصحافة» والتى جلس ولايزال يجلس عليها «أكابر» المهنة ومبتدئوها.

وصولًا لآخر «الحلويات» وهو قصر «روزاليوسف» ومكتبتها «العظيمة» التى تحوى كل أنواع الأدب والفنون. فما أن  يتم «صرف» مكافأة مجلة «صباح الخير» العزيزة، إلا ويتم  «صرفها»  بالكامل على كتب مكتبتها العزيزة أيضًا.

فأخرج من الشارع كما يقول المَثل  «يا مولاى كما خلقتنى»، لا أملك إلا طعم وتأثير تلك «الحلويات» بفمى وعقلى.  

(2)

 

لكن على المستوى الفنى، كانت توجد «حلاوة» من نوع آخر، وهى  أعمال الراحل الكبير الفنان «عبدالعال حسن»، تلك الأعمال التى أقتنيها مُنذ المرحلة الابتدائية وحتى الآن.

كان «بول جوجان» الرسام الفرنسى العالمى، ينتمى إلى صفوف العائلات الأرستقراطية آنذاك، لكن بول كان داخله مختلف، فلم يعر اهتمامًا لتلك الحفلات المملة التى تكتظ بالأحاديث عن المال والنساء والأراضى، فهجر تلك الحياة «البلاستيكية» إلى الحياة الواقعية داخله، فتزامل مع أحد أصدق الفنانين على ظهر هذا الكوكب  «فنسنت فان جوخ» وأكثرهم اكتئابًا أيضًا، وعندما ضاق بول بعصبية «فنسنت»  غير المُحتملة، فتركه وهاجر إلى داخله مرّة أخرى بحثًا عن واقع يطابق خريطة إحساسه، فوجد سلوته فى «جزر تاهيتى» وشعبها الطيب.

كذلك الحال مع الفنان عبدالعال، فقد هاجر الحياة الأكاديمية للفن، متمردًا على القوالب الثابتة، وصولًا لشطآن جزيرة «صباح الخير»، التى أحس أحد كبار ساكنيها وهو الفنان الكبير حسن فؤاد مديرها الفنى فى ذلك الوقت؛ بنبوغ هذا الفنان الصغير سنًا عندما عرض عليه أ.مفيد فوزى إحدى رسومه، وأخبره أنه حاليًا بقطر يرسم لدى مطبوعة هناك تسمى «الفجر»، فأخبره الفنان حسن فؤاد بالإسراع بمراسلته وإحضاره للعمل بالمجلة فورًا.

تميز أعمال  عبدالعال، لم يكمن فقط فى قوته فى رسم البورتريه أو الموديل أو الصور التعبيرية، ولكن فى رأيى الشخصى كان يكمن فى «بالته» إحساسه الداخلى، فعلى عكس رسامى البورتريه المتميزين، تفرّد عبدالعال على إخضاع البورتريه لـ«تونات» إحساسه فقط، فتجد الأصفر يمتزج فى هارمونى مع البنفسجى فى قدرة وتمكن تنبع من داخل شلال إحساس متدفق يفتت صخور صعوبة «اصطياد» الملامح أو الشبه، وهى معضلة كل رسام بورتريه. 

مارَس عبدالعال كل أنواع الفن الصحفى، فرسم للأطفال بمجلة ماجد وباسم، كما رسم العديد من قصص الأطفال لدار الشروق وغيرها لكبار كاتبى قصص الأطفال بالوطن العربى أجمع، ولكنه ارتبط بتفكير بول جوجان وهو البحث عن جزيرته الخاصة البعيدة عن الدارج، فبين الحين والآخر يهرع لجزيرة «البورتريه» والتى توج كمَلك على أفراد شعبها. 

 

(3)   لم يرتبط عبدالعال بفكر جوجان فقط ولكنه «ارتبط» أيضًا ببحثه عن «الشفافية والنقاء»  فيمن حوله، فما حمله على الاستقرار بجزر تاهيتى إلا أنه سُحر بجمال  قلوب شعبها؛ وبخاصة نساءها، فسجل فى أكثر من لوحة انطباعاته عن  نساء «تاهيتى» ذوات البشرة الصفراء والقلوب البيضاء، فعندما كان يرسمهن كان يشعر بنوع من أنواع التشافى النفسى الداخلى. 

 كذلك الحال مع نظيره المصرى، فقد هام يرسم بنات مصر ونساءها بداية من أسواقها الشعبية وصولًا إلى نساء «الواحات» وملابسهن المزركشة المشغولة بجميع ألوان الحياة والحب، فكما يقال إن تجاعيد الوجه دلالة على خبرات الشخص فى حياته، فكان عبدالعال يؤرخ حيوات نسائه فى «وجوم» نظراته الدائم، الذى يدل على حلمهن بالرحيل لعالم مثالى غير موجود، وكانت ألوان ملابسهن وتفصيلاتها دليلاً على انصهاره الشخصى داخل تلك الحيوات ومعرفته لأدق تفاصيلها كـ«راوى عليم» بإحدى الروايات الملحمية ذات الأجزاء الكثيرة. 

فلا تندهش عندما تسمعه فى إحدى مسامراته اللطيفة وهو يشرح بالتفصيل عن الفرق بين «الكردان» الفلاحى وطرق صنعه، والجلباب «السيناوى» وإكسسواراته المُختلفة وتميز كل جلباب عن الآخر باختلاف كل قبيلة عن الأخرى. 

حتى فى مرحلة المرض الأخيرة تشابه «الجوجانيان» باختلاف الأعراض، فمرض عبدالعال بفيروس نادر أدى إلى تدهور صحته تدريجيًا ومن ثم إلى فقده حاستى «السمع والبصر»، وكأن الله أراد بهذا الابتلاء، أن يحفظ تلك الروح «النقية» من علائق هذا العالم البصرية  منها والسمعية، وأعتقد أنه فى عزلته الأخيرة كان يلون من جديد كل ما تجود به ذاكرته عليه من مَشاهد وذكريات وأشخاص، فأقام داخله العديد من المَعارض التى تفوق مَعارضه فى عالم الواقع، إرضاءً وإشباعًا لأفراد شعبه الخاص الذين ملأوا جوانح حياته سعادة ونورانية. 

رحل «جوجان» المصرى بعد أن روّض أعيننا على تذوق الفن الممزوج بالأكاديمية فى البناء وتدفق المَشاعر فى التلوين. وهى معادلة لا يقوى عليها عتاة الفن إلا من حباهم أو بالأحرى «ابتلاهم» الله، بعوالم داخلية تعيش فيها شعوب، تضحك وتغضب وتصيح. لا تراهم إلا على لوحات معارض مُبدعيها فى العالم الحقيقى وفى عيونهم  فقط.