رشاد كامل
مقــدمة د. طه حسين على واحدة ونص!
لست وحدى الذى كان - ولايزال - معجبًا بكتابات ومقالات وكتب الأستاذ الكبير «أنيس منصور»، ومازلت أفتقد مقالاته وكتاباته!
كان هناك - ولايزال - مئات الألوف وربما أكثر، وقعوا فى غرام ما يكتبه أنيس منصور، لكنى أتوقف عند قارئ مهم وهو عميد الأدب العربى د. طه حسين، الذى لم يكتف بكونه قارئًا لأنيس منصور، بل كتب له مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه «حول العالم فى 200 يوم»!
بل كان يتابع الضجة المثارة حول تحويل كتاب أنيس منصور إلى مسلسل تليفزيونى!
تفاصيل الحكاية سوف تدهشك وتثير فضولك، وقد رواها الأستاذ أنيس منصور، فى كتابه الممتع «الكبار يضحكون أيضا»، حيث يقول:
فى يوم كنت أزور أستاذنا طه حسين وكنت أجلس معه طويلا استعدادًا لعمل حوار معه، الحوار الوحيد لطه حسين فى التليفزيونات العربية، وقد جلسنا حوله: نجيب محفوظ ويوسف السباعى وثروت أباظة وأمين يوسف غراب وعبدالرحمن الشرقاوى وعبدالرحمن صدقى وكامل زهيرى وأنا.
وهى لوحة تذكارية للأدباء الشبان مع أستاذهم وعميدهم طه حسين.
وكان هذا التسجيل قد مسحه التليفزيون المصرى ولكنى حصلت عليه من إحدى الدول العربية.. تصور؟!
وبعد المناقشة الطويلة الممتدة مع أستاذنا طه حسين سألنى بضحكته «الفولتيرية» الجميلة التى هى خفة دم ومكر، وكان كلما قال كلمة أتبعها بضحكته! قال لى: يا أستاذ أنيس: هاها.. أنت هاها.. سمحت بظهور كتابك هاها على الشاشة، كامل الشناوى قال لى: هاها.. إن المسلسل كله قد تحزم ليرقص هاها.. هذا شأنك.. ولكنى أريد أن أعرف منك.. هل الكتاب كله ما عدا المقدمة؟ أم المقدمة من غير الكتاب هاها!
أما المقدمة الجميلة فقد كتبها طه حسين وهو يسألنى إن كانت الراقصة سوف تؤدى «المقدمة» رقصًا.. أو يظهر طه حسين راقصًا، يا أستاذ أنيس إن كان هذا مصير كتابك الجميل، فأرجو ألا يكون مصير مقدمتى المتواضعة!
وقال أنيس: العفو يا أستاذ دى نكتة أطلقوها وزودوها شوية وصدقناها وروجنا لها وبس!
وعاد د. طه حسين ليقول لأنيس منصور:
على كل حال لقد أعذر من أنذر! وكل ما أطلبه هو أن يكون لى رأى فى الراقصة التى سوف تؤدى مقدمة الكتاب هاها.. هاها.. أنت تعرف أن الشاعر «فيكتور هوجو» قد وجد بيتا من الشعر مكتوبًا على أحد الجدران.. فقرأ البيت ثم وقف أمامه طويلا، وكان البيت من نظمه هو وظهر عليه الاستياء فسأله الذين معه فقال: لا مانع أن أجد شعرى مطبوعًا على الورق أو على الخشب أو على الجدران، ولكن يحزننى أن تكون به هذه الأخطاء الإملائية.. هاها.. هاها.
وضحك أنيس منصور وأخيرًا يقول: وكان من رأى طه حسين أن يظهر الكتاب فى مسلسل ظريف لا مانع بشرط أن يكون محترمًا، وقد حدث أن جاء الشاعر الغنائى عبدالسلام أمين وجعله إحدى فوازير «نيللى»، ولكن بعد وفاة طه حسين بعشرين عامًا!
بعد ذلك عزيزى القارئ أظنك فى شوق لتقرأ مقدمة طه حسين عن أنيس منصور وكتابه «حول العالم فى 200 يوم»، وهذه بالضبط مقدمة د. طه حسين:
«هذا كتاب ممتع حقًا تقرؤه فلا تنقص متعتك، بل تزيد كلما تقدمت فى قراءته، ومع أنه من الكتب الطوال جدا فميزته الكبرى هى أنه حين تقرأه لا تحتاج إلى راحة، وإنما تود لو تستطيع أن تمضى فيه حتى تبلغ آخره فى مجلس واحد، لأنك تجد فيه المتعة والراحة والسلوى وإرضاء حاجتك إلى الاستطلاع.
ومن المحقق أن هذه الرحلة الرائعة يمكن أن تقرن إلى الرحلات العربية القديمة، ومن يدرى لعل أن تمتاز منها ببعض الخصال، فصاحب الكتاب حلو الروح، خفيف الظل، بعيد أشد البعد عن التكلف والتزيد والإدلال، بما يصل إليه من الغرائب التى يسجلها فى كتابه.
وإنما هو يمضى فى الكتابة مع اليسر والإسماح، مرسلا نفسه على سجيتها مطلقًا لقلمه الحرية فى الجد والهزل وفيما يشق وما يسهل، لا يتكلف الفصحى ولا يتعمد العامية، وإنما كتابه مزيج معتدل منسجم من اللهجتين وهو لا يقصد إلى أن يبهرك ولا إلى أن يغرب عليك فى لفظ أو معنى، وإنما يستجيب لطبعه ويظفر بإرضاء الطباع السمحة التى تكره التكلف والتحذلق والإسفاف.
وقد أخذت فى قراءته ذات يوم فكان أشد ما أضيق به العوارض التى تعرض فتصرفك عما أنت فيه على كرهك لهذا والضجر به، والإحساس الذى لا يفارقك أثناء القراءة هو أنك مع الكاتب تشهد ما يشهد، وتسمع ما يسمع، وتجد ما يجد من ألم أو لذلة ومن سخط أو رضى، تسافر معه وتقيم حين يقيم مع أنك لا تبرح مكانك وإنما هى براعة الكاتب وإسماحه يستأثران بك ويخيلان إليك أنك تلزمه فى حركته وسكونه كأنك ظل له لا تفارقه.
وأشهد بأنى وجدت هذا الشعور منذ أخذت فى قراءة الكتاب إلى أن فرغت منه، وما أرى إلا أنى سأعيد قراءة فصول كثيرة منه، وهذا أقصى ما يتمنى رحالة أن يبلغ من نفوس قرائه، ومع أن الكاتب يسمى كتابه «حول العالم فى 200 يوم»، فهو قد طوف فأكثر التطواف ووصف فأحسن الوصف، فهو لم يزر العالم كله، وإنما زار الأجزاء البعيدة منه فى الشرق الأقصى وفى أمريكا! ومازالت هناك بلاد كثيرة لم يلم بها ولم يتحدث عنها، فهو لم يزر من الصين إلا هونج كونج ومن يدرى ماذا كان يقول لنا لو أنه زار الصين وبلادا أخرى كثيرة فى آسيا كآسيا الوسطى الروسية وكإيران وتركيا وجزيرة العرب، ولا أذكر العالم العربى فى آسيا فأكثر الناس يعرفون عنه الكثير.
ومازالت أمامه أجزاء خطيرة من العالم يجب أن تضاف إلى الصين وإلى الأجزاء الآسيوية الأخرى التى لم يزرها، وهو قد زار بعض البلاد الأوروبية، ولكنه لم يزرها زيارة رحالة! كما أنه فيما أعلم لم يزر بلادا كثيرة فى أوروبا، ولم يزر روسيا الأوروبية ولم يزر البلقان، وتبقى بعد هذا كله قارة كاملة تدعوه إلى زيارتها فى إلحاح وهى القارة الأفريقية، على اختلاف أقطارها. لست أقول هذا ناقدًا له، وإنما أقول متمنيًا عليه زيارة هذه البلاد كلها ووصفها كما وصف البلاد التى زارها مهما يكلفه ذلك من مشقة فى السفر والإقامة والكتابة بعد ذلك.
ومادام قد بدأ فأحسن البدء فيجب عليه أن يتم ما بدأه فيزيد فى إمتاع قرائه، ثم هو لا يمتع قراء هذا الجيل وحدهم، وإنما يمتع أجيالا أخرى كثيرة، كما استمتعت أجيال كثيرة برحلات العرب وبكثير من رحلات الأوروبيين.
ويمضى د. طه حسين قائلا: ومن المحقق أن الذين سبقوه من أصحاب الرحلات لم يزوروا الأرض كلها ولم يصفوها، وإنما اكتفوا بما زاروا من بعض الأقطار، ولكن الأستاذ الكاتب يستطيع أن يصدق بيت «أبى العلاء»: «وإنى وإن كنت الأخير زمانه.. لآتٍ بما لم يستطعه الأوائل»، فأبوالعلاء لم يغل فى هذا البيت لأنه أتى فى شعره وبعض نثره بكثير مما لم تسبقه العرب إليه، ولم يلحقوه فيه إلى الآن، فما يمنع كاتبنا من أن يأتى فى الرحلات بما لم يستطعه من سبقه من الرحالين ولعله آخذ فى بعض ذلك فيما يأتى من الزمان.
وليس من شك فى أنه قد أتى فى رحلته هذه بما لم يسبقه إليه أحد من معاصريه، وأنا أكره أن يصدق عليه بيت المتنبى:
«ولم أر فى عيوب الناس عيبًا.. كنقص القادرين على الكمال».
وفيه والحمد لله قدرة على الأسفار واحتمال للمشقات وقد منحه الله من الشباب والقوة وحسن الصبر والاحتمال ما يمكنه من ذلك إن أراد، وأنا أرجو أن يعينه الله على ما قد يحاول من ذلك، ولا أخفى وعليه أنى مشوق كل الشوق إلى أن أقرأ وصفه لأفريقيا، وليكن ذلك فى جزء أو جزءين، وهو قد أثبت بكتابه هذا أن الله للتطواف فى أقطار الأرض ووصف ما يزور منها كأحسن وأمتع ما يكون الوصف!
وما أظن أن «أخبار اليوم» تحول بينه وبين ما يسره الله له، فليعزم وليتوكل على الله، وأنا أهنئه بكتابه هذا وأتمنى له النجاح والتوفيق حتى يبلغ من إتمامه ما نحب.
«طه حسين - القاهرة فى أغسطس 1966»
انتهت مقدمة د. طه حسين، ولكن لم تنته الحكايات الصحفية!