
رشاد كامل
ذكريات الولد الشقى محمود السعدنى !
لا توجد مجلة أو صحيفة ظهرت فى مصر إلا وكان الأستاذ الكبير محمود السعدنى يكتب فيها، مجلات وصحافة لها العجب انتشرت فى سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي!!
وما أكثر المرات التى كان «السعدنى« يعمل بلا أجر وكان أحيانا يضطر لكتابة موضوعات المحررين لقاء أجر معلوم يتقاضاه كل شهر.. ولا أحد يدري!! بل إن المحررين أنفسهم لم يكونوا من قراء المجلة، وكان يوم الصدور بالنسبة لهم يوم عيد لا لشىء إلا لأنه يوم الإجازة!!
حكايات لها العجب عاشها محمود السعدنى وداخ السبع دوخات بين هذه المجلات رواها بقلم البارع الرائع فى سيرته الذاتية «الولد الشقى«.. تفاصيل حزينة مبكية وأخرى ضاحكة.. كان «السعدنى« بطلها الذى كان سلاحه الوحيد قلمه وموهبته التى لا نظير لها!! ولعل تجربة الأستاذ «السعدنى« فى جريدة «القاهرة» هى الأهم بعد مشوار الدوخة والجرى فى شارع الصحافة حيث يعترف قائلا: كانت جريدة القاهرة فرصة العمر بالنسبة لى وعلى صفحاتها نشرت أول قصة فى حياتى ثم نشرت مجموعة قصص كاملة أصدرتها بعد ذلك فى كتاب، ونشرت دراسة عن الظرفاء، ودراسة أخرى عن «مقرئى القرآن فى مصر» وكان من مهام عملى فى الجريدة إلى جانب نشر القصص والمقالات الحصول على أخبار وزارة الشئون الاجتماعية!
كان كتاب «السماء السوداء» أول مجموعة تصدر للولد الشقى السعدنى وأحدث ظهوره ضجة كبرى فى الوسط الأدبى وعن ملابسات صدوره يقول : لقد صدر كتابى الأول بطريقة لهذا العجب، تعرفت على موظف كبير فى وزارة الشئون الاجتماعية اسمه «صلاح نور» كان فى جوهره فنانًا وصعلوكا وابن بلد وبينما كان مرتبه لا يزيد على ستين جنيها كان يوزع نصفه على سعاة الوزارة ويقوم بتسليف النصف الآخر لصغار الموظفين، وكان يهوى الترف والأسفار والأدب، ويقرأ كثيرًا وبنهم ولكن قراءاته كانت متعددة ومشوشة!!
وتوطدت الصداقة بينى وبين «صلاح نور» وسرحت معه فى الحسين وفى الريف وفى مكاتب الوزارة، وذات مرة قرأ لى قصة قصيرة منشورة فى جريدة القاهرة وقال لى وهو يضحك : ده أنت لو طلعت كتاب هتعمل ضجة!!
واعتذرت له بأن اليد طويلة فى الكتابة قصيرة فى الفلوس !
وقال صلاح نور : إذا كان العائق هو الفلوس فقط فاعتبر الكتاب صدر والمطبعة تدور الآن !
وقمنا بالفعل وبعد أيام كان الكتاب فى السوق، ولقد تحققت نظرية صلاح فأحدث الكتاب ضجة لدى النقاد والأدباء، ولكنه لم يحدث أى أثر عند القراء وبلغ عدد النسخ التى بيعت من الكتاب مائة نسخة لا تزيد «ولكن الكتاب رغم الوكسة العريضة كان جواز مرور العبد لله إلى دنيا الأدب والأدباء».
ومن جريدة القاهرة التى تركها الولد الشقى مفصولا إلى مجلة «التحرير» التى أنشأتها ثورة 23 يوليو 1952 وأصبح مديرا لتحريرها فترة طويلة ويكمل : وما أكثر الذين مدحونى شفاهة ولكن ما أقل هؤلاء الذين أبدوا رأيهم تحريرا فى إنتاجى !
ولقد كتب لى «يوسف السباعى« مقدمة مجموعة قصصى الثانية «جنة رضوان» وهو عنوان القصة التى وصفها الدكتور «على الراعى« شفاهة ذات يوم بأنها أعظم قصة مصرية قرأها فى حياته ثم لحس هذا الرأى بعد ذلك وناصبنى العداء لخلاف بينه وبين «عبدالرحمن الخميسى» لم أكن أنا طرفا فيه!!
أما السبب الذى جعل «يوسف السباعى« يكتب مقدمة مجموعة «جنة رضوان» فهو سبب يستحق أن يروى،وهو سبب جعلنى أؤمن بأن الجو الأدبى فى مصر هو مجرد غابة وأنك لكى تضمن لإنتاجك أن يظهر وأن ينمو فلا بد أن تكون من أقوى الوحوش!
لقد بدأت القصة حين أبلغنى «يوسف السباعى« أن الأستاذ «توفيق الحكيم» ذكرنى فى معرض الحديث عن الأدباء الشبان وأنه أبدى استعداده لأن يكتب لى مقدمة مجموعتى الجديدة.. ذهبت مسرورا إلى دار الكتب لمقابلة الأديب العظيم، وفى أول لقاء معه أعاد ما سبق أن قاله لى «يوسف السباعى« وطلب منى إحضار أصول المجموعة الجديدة لكى يكتب رأيه فيها.. وخرجت من دار الكتب تكاد الأرض لا تحملنى،ويكاد الفضاء أن يضيق بى !! ولم أتكتم الخبر بل نشرته فى كل مكان وذكرته لكل من قابلني! وبعد أيام حملت أصول الكتاب إلى دار الكتاب ووضعت القصص بين يدى توفيق الحكيم، ولم أكن أدرى أنه خلال تلك الأيام التى فصلت بين لقائى الأول ولقائى الثانى حدثت أشياء أقل ما توصف به أنها عجيبة وغريبة ورهيبة وليس لها مثيل !!
ويمضى الولد الشقى قائلا: عندما جلست أمام «توفيق» فى مكتب بدار الكتب بعد أسبوع من لقائى الأول أدركت أن شيئا ما قد حدث، ولكن لم أستطع إدراك هذا الشيء على وجه التحديد، ولكنه اعتذر بأنه لم يقرأ قصص المجموعة الثانية وطلب منى فى النهاية أن أمهله حتى شهر رمضان حيث الوقت متسع للقراءة والكتابة على حد سواء !! وهز توفيق الحكيم رأسه وقال بطريقته المعروفة : إيه رأيك بقى ؟!
ووافقته بالطبع ولكنى لم أنقطع عن زيارته حتى جاء رمضان، ومضى رمضان أيضا وأنا مواظب على الزيارة وهو مواظب على الاعتذار، وبعد ثلاثة اشهر كاملة أدركت أن توفيق الحكيم لن يكتب المقدمة والحق أننى حزنت وتألمت !
ولقد تصورت أن مقدمة يكتبها توفيق الحكيم سوف تدفعنى عدة أميال فى هذا الطريق وستكون شهادة ميلاد لى كقصاص جديد!
ولكن لماذا اعتذر توفيق الحكيم عن كتابة المقدمة، لذلك قصة وهى قصة لم يروها لى توفيق الحكيم، ولكن الذى رواها واحد من أقرب أصدقائه وأكثرهم إطلاعا على حقيقة ما يدور عند توفيق الحكيم، والذى حدث أن بعض الأدباء الشبان ذهبوا إليه وعاتبوه على اختيار مجموعتى لكتابة مقدمة لها، ورطنوا أمامه برطانة أعجمية فهم منها الحكيم الذكى الحذر الشديد الحرص على ألا يقحم نفسه فى مهاترات من أى نوع لكى يقضى رحلة حياته العظيمة الطويلة بإذن الله قارئا وكاتبا ولا شيء غير ذلك ! فهم الحكيم أن هناك خلافًا وأن هناك أشياء لا يجوز له أن يخوض فيها على الإطلاق، ولقد واجهت هؤلاء الأدباء بعد ذلك بعضهم اعترف وبكى،وبعضهم اعترف واعتذر بأنهم كانوا فى حالة نفسية شديدة السوء !!
ما جرى بعد ذلك يرويه الولد الشقى قائلا: لقد طبعت هذه المجموعة «جنة رضوان» فى الكتاب الذهبى حيث طلب منى «يوسف السباعى« أن أسلم أصول الكتاب إلى «إحسان عبدالقدوس»، وكانت صلتى بإحسان مجرد صلة قارئ بكاتب، وكنت أنا القارئ على كل حال! وأيضا صلة زميل صغير بزميل أكبر، ولكنى اكتشفت عند لقائى به أنه قرأ مجموعتى الأولى «السماء السوداء» وأنه معجب بها على نحو ما، ولم أكن أنا أدرك حتى هذه اللحظة أن ما أكتبه يستحق اهتمام أحد من الكتاب الكبار !
وربطتنى هذه المقابلة بإحسان، فقد عاملنى بود واحتفل بى بصدق وسرعان ما دارت ماكينات الطباعة وصدر الكتاب فى السوق، وسحبنى يوسف السباعى بعد صدور الكتاب بأسبوع إلى دار روزاليوسف لمقابلة «الست» وكان هذا هو لقب السيدة روزاليوسف يرحمها الله! وذهبت مع يوسف السباعى فى بدلة جديدة شامخ الأنف ثابت الخطى، فقد تصورت نفسى أحد كبار الكتاب فى هذا العصر والأوان.. وعندما اقتحمنا الغرفة اكتشفت بأن «الست» ليست وحدها.
وأنها تراجع بروفات المجلة ومعها عدد من المحررين والعمال، وصافحتنى بدون احتفال وقالت ليوسف السباعى : مين ده راخر ؟! ورد يوسف فى خوف : ده محمود السعدنى!! وقالت بعصبية : لا خلاص مش هنطلع كتب تانى.. كفاية بقى كفاية بقى.. كتب الشبان دول مالهاش سوق، كفاية خسارة !!
وقال يوسف: ما أحنا لازم نشجع الشبان برضه ولكنها ردت فى حزم: لا خلاص.. أنا قلت لا !! وقال يوسف السباعى: على كل حال السعدنى كتابه طلع خلاص! وقالت الست لتنهى المناقشة: خلاص خليه يروح يقبض الفلوس أربعين جنيه مفهوم!!
ويعترف السعدنى بعد ذلك قائلا: وانتابتنى حالة الحماقة التى تنتابنى دائما كلما واجهت موقفا من هذا النوع، وهممت أن أصرخ فى وجهها، ما هذا الذى تفعلينه؟ أنا لست شيالا فى محطة مصر والخلاف بينى وبينك على أجرة مشال من المحطة للبيت، أنا كاتب أعطيتك إنتاجا هو عصير عمرى وتجربتى فى الحياة وما ذنبى أنا إذا كان هذا الإنتاج لم يجد سوقا؟ وهل أنا تاجر فى سوق العصر؟! ولكن الكلمات ماتت على شفتى وتراجع يوسف السباعى خارجًا وأنا خلفه وعلى درجات السلم سألنى: أنت شفت الست قبل كده ؟!
وأجبت بالنفى ! فقال يوسف وهو يضع يده على كتفى: دى طريقتها لكن هيه ست طيبة !
وارتاحت نفسى لكلمات يوسف فهذه الست العظيمة التى أنشأت من العدم دارا صحفية وكتابا شهريًا وصنعت كُتابا ومؤلفين وأصحاب أقلام من كل نوع وابنها من كبار الكتاب، وأى كاتب إذن هو ابنها مهما كان، ومن أكون أنا فى زمرة الكتاب !!
ولم يسعدنى الحظ بعد ذلك لمعرفة الست عن قرب فقد كان هذا لقاءنا الأول والأخير !!
وللحكاية بقية!