
رشاد كامل
هيـكل يســرق قصــة الــوردانى
ما زال إبراهيم الوردانى يكتب قصصه القصيرة المدهشة متخفيا وراء اسم «مى الصغيرة» وفى نفس الوقت ترك وظيفته بقشلاق الإنجليز فى قصر النيل بمرتب شهرى ثلاثين جنيها، وعاش فترة عصيبة وبدأ يستدين من ناس بعيدين عن عالم الصحافة!
ويعترف إبراهيم الوردانى فى مذكراته الممتعة «فلاح فى بلاط صاحبة الجلالة» قائلا: أمسكت عن الصرف بين الصحاب، لم أقل لأحد أننى أصبحت بلا عمل وبلا مرتب وبلا نقود!! أهرب من لقاءات أشتهيها وسهرات قد اعتدت عليها، وأحاول عبثا أن أجد الطريق إلى تلك المنحطة المذلة النقود!
كلمت حازم فودة صاحب مجلة الساعة 12 ـ أن يرفع من أجر «مى الصغيرة» عن كتابتها، فدهش واستغرب وتعجب، فقد اعتاد منى التهوين من أهميته وكثيرا ما رأنى أدفع ثمنا لإعلان فى الأهرام عن «مى الصغيرة» اليوم فى الساعة 12.
دهش واعتذر عن مقدرته إلا من زيادة الجنيه الواحد فقط، شكرته وانصرفت!!
أخذت أتهرب من لقاءات هيكل وسعيد عبده ورمسيس ومأمون الشناوى ورخا وصلاح وإحسان، وكلما سألونى عن السبب تواريت وأنا أطلق ضحكة سخيفة يبللها الخجل بأننى و«مى الصغيرة» فى خلوة غرام مع كتابة رواية طويلة!!
وذات يوم مباغت وغريب وكنت أجلس وحدى بمقر «الساعة 12» فوجئت برجل أصلع ضحوك يطرق الباب ويسأل عن عنوان الكاتبة القصصية «مى الصغيرة» إنه المخرج السينمائى الصاعد «أحمد ضياء الدين» وفى يده عقد مكتوب باسم مى من صورتين بالكربون كى تكتب له حوار فيلم عاطفى غنائى جديد تقوم ببطولته مطربة تونسية جاءت تبحث عن الشهرة فى مصر اسمها «حسيبة رشدى» ومعها الممول ويقوم بالبطولة أمامها المطرب «محمد صادق»!
سلمنى ملخص القصة وهو من صفحتين ثم سلمنى العقد المكتوب بالكربون وقد وقعت عليه بصفتى الوكيل عن «مى الصغيرة» ثم وقعت إيصالا عن قسط الخمسين جنيها من أصل العقد وقيمته 150 جنيها، وكانت ورقة واحدة كبيرة وضعتها فى جيبى مع ورقة الخمسة قروش الوحيدة البالية التى تبقت معي!
وعندما انصرف «ضياء» احتفل الوردانى بأكلة كباب وطرب وسكالوب بانيه وحلويات متنوعة ويكمل قائلا:
فعلت هذا ثم قمت نحو كابينة التليفون أدق على الثلاثى «سعيد ورمسيس وهيكل» والعزومة يا فتيان الليلة على حسابى، كيفما تريدون وأينما تشاءون وخذوا المعلومة منى فأنا الليلة فى ثراء «أغا خان»!!
أكلت وشبعت ودفعت الحساب 76 قرشا وجيبى منتفخ بفكة ورقة الخمسين جنيها!!
ويحكى إبراهيم الودانى كيف قام بشراء جاكته كحلى من صفين بأزرار نحاسية براقة آخر موضة وفى الجيب العلوى منديل الزينة الأحمر والبنطلون صوف رمادى شارلستون والحذاء شمواه بلا رقبة ولا رباط، كل ذلك بستة جنيهات ويكمل:
أتهادى بأناقتى الجديدة حول ميدان سليمان باشا وأتوقف عند مدخل سينما «راديو» ونشوتى ما زالت غامضة، وما زال ميعاد السهر مع هيكل وسعيد ورمسيس أمامه ساعات طوال، وقطعت تذكرة بلكون فى السينما، كان الفيلم فى منتصفه ولم ألبث أن سئمته.. فخرجت من السينما أعود وأتمشى.. وأتوقف أمام مكتبة روكسى.. الأقلام والكشاكيل تنادينى من الفترينة، أدخل وأشترى..
كنت قريبا من مقهى «بور فؤاد» فدخلت واخترت مائدة فى الركن، بائع الصحف يمر فى المقهى بعدد آخر ساعة الجديد والزبائن يتخاطفونه فى حماس، فالما نشيت على الغلاف عن «أسرار الأزمة بين القصر والوفد وولى العهد» اشتريت نسخة. عزيزى «هيكل» له توقيع صغير منمنم فى ملزمة الصفحات الأخيرة على موضوع مترجم.. سعيد عبده له التوقيع العريض كرئيس تحرير وموال له أيضا، ورسم لصاروخان، ثم أتوقف منجذبا عند مسلسلة التابعى الأخرى الأشد تشويقا وإبداعا يكتبها تحت عنوان «بعض من عرفته عن غرامياته الدونكيشوتية على شواطيء مونت كاتينى والكوت دازو» أسلوب التابعى ما أروعه، تعابيره المختالة ذات الرنين الذهبى ولها أحيانا صليل الأفعى ذات الأجراس، خيالاته وعالمه المبهر الساحر خاطف الأبصار الذى يهيم به محلقا بالقراء المصريين!
كانت الساعة قد أصبحت السادسة، قمت إلى تليفون المقهى وأبلغت هيكل إننى موجود فى انتظارهم بعد أن ينتهوا فى الجناح الخلفى من مقهى بورفؤاد بشارع فؤاد الأول.. وعدت لأبدأ كتابة «العنوان: بعض من عرفت»،.. بقلم مى الصغيرة. اندمجت سخن قلمى القصة والسرد المختصر لها.. البطلة أمريكية مجندة حسناء اسمها تمارا تزور القاهرة فى مهمة لأول مرة.. و.. وقصة ملاغية لعوب!!
ولقد وجدت نفسى أضحك مع النهاية بعد أن كتبتها، عندما ظهر «هيكل» وسعيد عبده ومعهما رمسيس فوق رأسى.. فما هذا الذى يضحكنى وأنا وحدى.. أسرعت إغلاق الكشكول وأبعد القلم فأبدا لم يريانى من قبل وأنا أكتب ولكن عزيز الدكتور «سعيد» أسرع واختطف الكشكول من أمامى ليفتحه على العنوان العريض «بعض من عرفت بقلم مى الصغيرة.. وتعلو ضحكاته العصفورية وتتخاطف الكشكول الأيدى وتجحظ على الاسم والخط والعنوان وتنهمر الضحكات والسخريات وقفشناك متلبسا يا حضرة الأنسة مى الصغيرة!
اضطربت وارتبكت وأصابتنى اللخمة، فبادلتهم الضحك ووجهى يضطرم بحمرة الخجل، والرد لى إنها تبييض المسودة لقصة أعدتها «مى الصغيرة للساعة 12» ظل الكشكول فى يد الدكتور «سعيد» فلم يلبث منظرى الفائق الأناقة أن أخذهم إلى شغب دعابة أكبر، فانهالوا لدغا واستفهاما.
اجتذب الكشكول فضول الاستطلاع والقراءة من صديقى الدكتور «سعيد» فانزوى عنا يطالع فيه، استغرق فى القراءة وعلى ملامحه مرح وشغف وانبساط، ثم غمز لهيكل يهمس فى أذنه ويقرأون سويا ثم انضم إليهما «رمسيس» وكنت قد انشغلت عنهم وراء تليفون يطلبنى فى كابينة المقهي!!
وتمضى حكاية الوردانى وحدث ما لم يخطر على باله قط ويروى قائلا:
نسيت الكشكول وفيه القصة مع «هيكل» تلك الليلة وطبعا لن يضيع، وعندما قابلت «هيكل» بعد يومين سألته عن الكشكول، فقال لى فى بساطة مثيرة إنه ضاع منه..ضاع؟ قالها فى بساطة سمجة مما هيجنى وأطلق غضبى فثرت فيه فى انفعال شديد فمن أين لى أن أستعيد تلك القصة؟
قال وهو يضحك سخيفا وبلا مبالاة فلماذا لا أنسخها من المسودة المعطرة!!
وعندما جاء سعيد عبده وسمع صخبى وثورتى وعرف عن ضياع الكشكول، تحيز ضاحكا مع «هيكل» وزغدنى فى جنبى مداعبا ومهدئا ويا أخى فتش فى أوراق المرحومة عن سواها؟! يقصد مى الصغيرة فما أقساه هو الآخر!
امتعضت سريعا من قسوة اللفظ وتملكنى الضيق إلى درجة أن هممت بالانصراف مخاصما ومقاطعا ولكنهما تمسكا بى واعتذرا وبررا ضياع الكشكول بكلام غامض مداعب، وهما يؤكدان بعد كل ضحكة بل يضغطان على القول بأن أمتع المناظر لهما عندما يريانى أفلت من قفص حياتى الريفى وأبدو غضوبا صريحا بمثل هذا الذى أتمادى فيه الآن من أجل ورق قصة لن يتاح لها النشر طبعا، فهل معقول أن يؤخذ عنوان التابعى لمجلة أخرى غير آخر ساعة!
وصباح الأحد استيقظت على تليفون مبكر يطلبنى وكان المخرج «أحمد ضياء الدين» وفى صوته غموض واعتذار، فهو يطلب منى سرعة اللقاء من أجل تغيير العقد بعد أن انكشف الاسم، وقبل أن أفيق من الصدمة أو غرابة الطلب قال: إنها والله فكرة خدعة رائعة تصلح فيلما !! ماذا.. ماذا!!
وأخيرا فهمت منه أنه يتكلم عن عدد آخر ساعة الجديد مفتوح أمامه وفيه صورة كبيرة لى مع قصة بقلم «مى الصغيرة» عنوانها «بعض من عرفت»!
ويحكى إبراهيم الوردانى كيف أن د. سعيد عبده كتب مقدمة لقصته فضح فيها السر الخفى، قائلا: هذه هى صورة مى الصغيرة هذه هى صورة الفتاة التى خدعت قراءها فى الصحف بضع سنوات وغازلتهم بكتابات وقصص اتسمت كلها بالجوع العاطفى إلى القبلات!! هذه هى مى الصغيرة التى سمعت من أكثر من واحد من أصدقائى قصص غرام.. هذه هى مى الصغيرة خنشور مثلى ومثلك له لحية وشارب وعنده اليوم بريد يساوى فى الميزان فقط بتطبيعه الحال بريد وزير.
عدد آخر ساعة يهتز فى يدى، أشعر بالدوار الشديد انكمش وأنكمش، أتهاوى أجلس على الأرض ساكتا لا أتكلم ويدهش الرجل بائع الصحف فأشير له على الصفحة الثانية من عدد آخر ساعة، يحملق الرجل ثم يرتفع صوته فى دهشة: إنها صورتك!
وتتوالى المفاجآت فى ذكريات إبراهيم الوردانى.