الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
صبرى موسى الإبداع حتى آخر لحظة!

صبرى موسى الإبداع حتى آخر لحظة!

شاءت الصدفة والمصادفات أن أتولى رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» من يونيو سنة 2003 وحتى مارس 2009، وشاءت الصدفة أن أكون رئيسًا على ثلاثة رؤساء تحرير شغلوا المنصب نفسه وهم على التوالى الأساتذة الكبار النجوم «لويس جريس» و«مفيد فوزى» و«رءوف توفيق».



وشاءت الصدفة وأن أكون كذلك والمجلة تضم كبار نجوم الصحافة ليس فى مصر وحدها، بل فى العالم العربى كله، نجوم صحافة وأدب وقصة ورواية وشعر ورسم وكاريكاتير.

 

كل هؤلاء النجوم زاملتهم وعرفتهم عن قرب منذ مجيئى إلى «صباح الخير» صيف عام 1976 فى زمن رئاسة العظيم والأب الروحى «حسن فؤاد»، صاحب الفضل فى تعيينى، ثم جعلنى سكرتيرًا للتحرير لسنوات طويلة.

وهكذا اقتربت من كل هؤلاء النجوم الأساتذة ولاأزال أدين لهم بالفضل الكبير، فكل اسم منهم كان صاحب بصمة فى حياتى المهنية، بل الشخصية.. ولا تنتهى الذكريات والحكايات معهم وعنهم مهما طالت الأيام والسنوات.

ومن وسط مئات التهانى التى تلقيتها عقب تعيينى رئيسًا للتحرير، كانت تهنئة الأستاذ الكبير المبدع «صبرى موسى» بدأها ضاحكًا: مبروك يا واد!

كان الأستاذ «صبرى موسى» قد توقف منذ فترة عن كتابة بابه الأسبوعى الرائع «صفحة ونص» فقلت له: فين «صفحة ونص» يا أستاذ صبرى؟! فقال: مش دلوقتى، ولكن عندى لك مفاجأة أكبر»!

 

 

 

وفى انتظار الموافقة راحت الذكريات تتوالى ومرت أمامى كشريط سينمائى رائع، وقبل أن أعرفه فى «صباح الخير» كنت من قرائه وكان أول ما قرأته له «حادث النصف متر»، ومشروع قتل جارة وجهًا لظهر وفساد الأمكنة»، ذلك العمل الأدبى النادر فى تاريخ الرواية العربية، ومن أدب الرحلات التهمت كتابيه «فى الصحراء» و«فى البحيرات»، وغيرهما من مقالاته الصحفية المكتوبة بلغة أدبية بسيطة لا فذلكة فيها ولا تقعر!

ولست أنا الذى يقوم بتقييم هذه الأعمال العظيمة، فقد سبقنى إلى ذلك نقاد كبار وأساتذة أفاضل سواء مصريين أو عربًا أو أجانب، فقد ترجمت معظم أعماله لأكثر من لغة وحصدت جوائز أيضًا.

كان الأستاذ «صبرى موسى» يكتب فى آخر لحظة والمجلة ماثلة للطبع، ولم يحدث أبدًا أن كتب مقالاً أو قصة قصيرة أو فصلاً من رواية إلا فى اللحظات الأخيرة، وحتى بعد أن يكتب المادة ونرسلها إلى الجمع كان يراجعها أكثر من مرة ويحذف كلمة هنا وعبارة هناك، ويضيف كلمات أو سطورًا. كان شديد الإتقان والعناية، بل كان يغضب أو يثور إذا وجد علامة تعجب فى غير موضعها، أو نسى عامل الجمع وضع فاصلة فى مكانها!

وكنت أندهش وأضحك فى سرى، لكنه الحرص المطلق على الإتقان».

ذات مرة اتفق مع الأستاذ «لويس جريس» على نشر رواية جديدة يقوم بكتابتها عنوانها «فنجان قهوة قبل النوم»، وبدأت المجلة فى نشر إعلانات عن الرواية التى ستنشر قريبًا.. ومرت أسابيع وشهورًا ولم تظهر الرواية، فقد كان يكتب صفحات، ثم لا تعجبه فيعيد كتابتها وهكذا، وحدث موقف لا أنساه عندما جاء ساعى المجلة ليحاسب على مشاريب الأسبوع كله، فوجد الأستاذ صبرى أن المبلغ مبالغ فيه، وقال للساعى:

 

 

 

«معقول أنا شريت كل القهوة دى، ولم أملك نفسى من الضحك وقلت له: ده بيحسبوا إعلانات «فنجان قهوة قبل النوم» التى لم تكتبها بعد!

كان أكثر ما يغيظه ويضايقه سلوك «الكلفتة»، وعدم الجدية والإتقان، وهى ظاهرة موجودة فى كل مكان، بل إن «الكلفتة» طالت إبداعه وكتاباته وهو ما دعاه يومًا لكتابة واحد من أجمل مقالاته بعنوان «كلفت يكلفت فهو مشروع» تناول فيه عشرات من مظاهر «الكلفتة» فى حياتنا إلى أن يقول بمرارة وحزن لا حدود لهما:

«لم تعد الكلفتة مقصورة على الجهلاء أو عديمى التعليم أو عديمى الثقافة، بل أصبحت أيضا فعلاً شائعًا فى الأوساط الأكاديمية، فقد قرأت بالصدفة عددًا من الكتب تضم عددًا من رسائل الدكتوراه حول الإبداع الأدبى، أى أبحاث ودراسات تقدم بها أصحابها للحصول على درجة الدكتوراه العلمية، ثم قاموا بنشر هذه الدراسات فى كتب بعد حصولهم على الدرجة!

وقرأت هذه الكتب فإذا بها تتحدث ضمن ما تتحدث به عن أدباء الستينيات فتؤرخ لهم وتصنفهم وتصنع لهم تقييمًا ليستفيد به القراء والباحثون فى المستقبل، وأدباء الستينيات الذين عاصرتهم أنا شخصيًا كان عددهم يصل إلى الخمسين أديبًا أو أكثر، وأنا أقصد هنا هؤلاء الذين كانوا ينشرون إنتاجهم فى كتب وفى مجلات وصحف معروفة!

ولكن لدهشتى الشديدة وجدت أن عدد هؤلاء الأدباء الذين أعرفهم وأعرف إنتاجهم قد تقلص فى دراسات هؤلاء الدكاترة إلى أربعة أو خمسة على أكثر تقدير! والأكثر إدهاشًا وغرابة أن الأربعة أو الخمسة الذين اعتمدهم الدكتور الفلانى كأدباء الستينيات هم غير الأربعة أو الخمسة الذين اعتمدهم الدكتور الآخر.. وهكذا! باستسهال يصل إلى حد الإهمال، التقط كل دكتور ما وقع بين يديه من كتب الستينيات وتحدث عنها فى دراسته العلمية واعتبر كل ما لم يقع فى يده غير موجود ولم يوجد قط!

والمصيبة أن هذه الكتب سوف تصبح مراجع يستشهد بها الباحثون فى المستقبل ويكررون كل ما بها من أخطاء أجيالاً وراء أجيال!

بل إن هناك ناقدًا سينمائيًا عربيًا شهيرًا أصدر كتابًا منذ عام عن السينما، كتابًا يبدو من مظهره وتبويبه جدية البحث وأهميته.. وما كدت أواصل القراءة فيه حتى اكتشفت أن الأفلام التى قمت أنا بكتابة السيناريو والحوار لها مثل: «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم» و«رحلة داخل امرأة» و«الشيماء» و«حادث النصف متر»، و«رغبات ممنوعة» وغيرها - اثنى عشر فيلما - قد نسبها إلى الكاتب الصحفى المعروف الأستاذ «موسى صبرى»، وهى قليلة ومأخوذة عن قصص له، فقد نسبها الباحث إلىّ أنا، ثم بدأ يواصل النقد والتحليل على هذا الأساس، وليست هذه كل النماذج طبعًا».

كنا فى شهر أغسطس سنة 1981 عندما قرر الأستاذ «صبرى موسى» أن يبدأ فى نشر رائعته النادرة رواية «السيد من حقل السبانخ» كان العنوان غريبًا ومستفزًا ولم يغضب الأستاذ «صبرى» حين قلت له: أنا لا أحب السبانخ.. اشمعنى السبانخ وليس البسلة أو الخبيزة؟! ضحك فى أبوة حانية قائلاً: ستحب السبانخ بعد قراءة هذه الرواية!

بدأ نشر الحلقات مع عدد 3 سبتمبر 1981 ومصر كلها تغلى وضاق السادات بالمعارضة، ثم جاءت حملة الاعتقالات وبعدها تم اغتيال السادات، وتوقف نشر الرواية، فقد خصص الأستاذ لويس جريس عد «صباح الخير» بأكمله لتغطية هذا الحدث الجلل! واستكمل الأستاذ «صبرى» نشر الحلقات، وكان يكتبها على آخر لحظة!

وفى زحمة الحوادث لم يلتفت القراء لدلالة الرواية المستقبلية، لكن عندما صدرت فى كتاب بعد ذلك، كانت حدثًا أدبيًا فريدًا ليس له نظير!

كانت أجمل الأوقات عندما يستعيد ذكرياته عن مجلة «صباح الخير» فيقول: «فى ليلة صدور عددها الأول كانت أعدادها فى أيدينا، مجلة باهرة رشيقة جديدة تمامًا عما كان مألوفًا، فهل نستطيع نحن الذين أبقانا الزمن على سفينة «صباح الخير» أن نقول أننا صنعناها؟! أبدًا، فالحقيقة أنها صنعتنا وصقلتنا وجعلت منا نجومًا فى الصحافة وفى الأدب وفى الفن، ولا تكف عن تقديم النجوم للصحافة والأدب والفن والتليفزيون أيضًا».

«صبرى موسى» عبقرية نادرة، عرفته عن قرب وما أكثر ما تعلمت منه وأعلم أنه كان يكتب مذكراته عن مشواره الرائع مع الصحافة والأدب، فهل كتبها بالفعل، لعل الجواب تملكه زوجته الفاضلة الزميلة الصحفية «أنس الوجود رضوان»!