السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الرجل الذى طلب الخروج مع زوجة قاسم أمين!

الرجل الذى طلب الخروج مع زوجة قاسم أمين!

ما أكثر المقالات والدراسات والأبحاث التى صدرت عن المفكر الكبير والقاضى الجليل «قاسم أمين» صاحب كتاب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وكانا بمثابة زلزال فكرى واجتماعى داهم المجتمع المصرى قبل حوالى مائة وعشرين سنة تقريبًا!



كلها بدون استثناء كتابات جادة عن رجل جاد يستحق كل التحية والتقدير، ومنها مثلا ما كتبه الأستاذ «محمود عوض» فى كتابه الرائع «أفكار ضد الرصاص»، الذى كانت جريمته أنه طلب تحرير المرأة فى مواجهة الرجل، وأيضا المقدمة الرائعة التى كتبها الأستاذ «أحمد بهاء الدين» لكتاب «تحرير المرأة».

 

وهناك أيضا ما كتبه زعيم ثورة 1919 الاقتصادية «طلعت حرب باشا».. و.. و.. و..

لكن ما كتبه الشاعر والفنان والأديب والصحفى «كامل الشناورى» شىء آخر تمامًا، لقد رسم بكلماته الشاعرية قصيدة جميلة عن «قاسم أمين» عنوانها: «أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة»، وكان ذلك فى أحد فصول كتابه «زعماء وفنانون وأدباء»، ودعونا نقرأ ما كتبه كامل الشناوى وهو درس مهم فى فن الكتابة قبل أن يكون درسًا فى تاريخ رجل غيّر وجه مصر.

بدأ «كامل الشناوى» حديثه وكلامه عن قاسم أمين، وكيف دار الحوار بينه وبين ذلك الغريب الذى جاء يطلب مقابلة زوجته على النحو التالى فيكتب قائلاً:

«امتلأت حديقة الدار بزعيق صاخب.. اختلطت فيه لهجة السفرجى النوبى وصوت البواب الصعيدى ونبرة الجناينى الريفى، ونباح الكلاب الضخمة التى تحرس الدار القائمة وحدها فى شارع الهرم، لا شىء قبل هذه الدار ولا شىء بعدها إلا فندق مينا هاوس والأهرام وأبوالهول!

وأطل صاحب الدار من نافذة الطابق الأول فرأى شجارًا عنيفًا، اشتبك فيه زائر ببدلة سوداء وطربوش أحمر، والتف حوله الخدم ينهرونه بالعبارات الصارخة ويدفعونه بالأيدى ويجذبونه من كتفه ليخرجوه من البيت، وكان الزائر يصيح: أريد أن أقابل سعادة المستشار! قال أحد الخدم: إن سعادة البك لا يقابل أحدًا فى منزله! وقال له خادم آخر: أنت كذاب.. إنك لم تطلب مقابلة المستشار، ولكن طلبت مقابلة الست الكبيرة! وقال له خادم ثالث: أنت رجل وقح ولا بد من ضربك!

وكان المستشار «قاسم أمين» عندما أطل من النافذة قد سمع هذا الحوار ورأى المشاجرة الحامية بين خدمه والزائر الغريب، فأمر الخدم أن يكفوا عن الضجيج وسأل الزائر: هل تريد مقابلتى لأمر يتعلق بقضية من القضايا؟!

وقال الزائر: لا!

رد قاسم: لو حدثتنى عن قضية فسوف أدعو النيابة إلى التحقيق معك وقد ينتهى التحقيق بالقبض عليك!

الزائر: ليس لى قضية عندك ولا عند سواك من المستشارين!

قاسم: هل تعلم لماذا اخترت هذا المكان النائى لأسكن فيه؟ لأكون فى عزلة عن الناس، إن المتقاضى يختلف عن المريض فى شىء واحد، المتقاضى يطمئن إلى قاضيه إذا كان القاضى بعيدًا عنه وعن خصومه، والمريض لا يطمئن إلى طبيبه إلا إذا كان قريبًا منه!

الزائر: أريد مقابلتك لشىء آخر، قال قاسم: تفضل!

ومشى الزائر وقد تقدمه السفرجى ليدله على باب الغرفة التى كان قاسم أمين يتحدث من شرفتها.. ورحب قاسم بالزائر وسأله هل يشرب قهوة أو شايًا أو عصير ليمون، وفتح الزائر فمه بكلمة، والتفت «قاسم أمين» إلى السفرجى وقال له: قهوة سادة يا حسن!

ويمضى الأستاذ «كامل الشناوى» يصف بقلمه الرشيق ما جرى بعدها قائلاً: «ومرت لحظة صمت كان الزائر خلالها يتأمل فى هذا المستشار الذى اكتسب سمعة طيبة فى نزاهته وعدله وكفايته القضائية.. واكتسب سمعة أخرى سيئة فى أفكاره، فهو فى نظر الجمهور إباحى فاسق فاجر.. وهل هناك دليل على الإباحية والفسق والفجور، أكثر من أن ينادى رجل بأن تخلع المرأة برقع الحياء وتمشى فى الطريق بوجه مكشوف وليس هذا فحسب، بل إنه يريد للمرأة أيضًا أن تختلط بالرجال، وتمارس أعمالهم وحقوقهم وواجباتهم.. وهكذا تتساوى المرأة بالرجل وتنقلب من مجرد متعة أو قطعة أثاث فى البيت إلى إنسان له رأى وإرادة وتفكير!

أى جريمة نكراء تنطوى عليها تلك الدعوة الجريئة؟ وبماذا تصف رجلًا يرتكب مثل هذه الجريمة؟ إن أقل ما يوصف به أنه زنديق، كافر، متساهل فى عرضه وشرفه!

ومع ذلك وياللعجب! يضرب أصدقاؤه بعدالته الأمثال ويتكلمون عنه كما يتكلمون عن رجل شريف!

وجاءت القهوة والتفت الزائر حوله، فلم يجد فى الغرفة غير «قاسم أمين» ومكتب صغير وبعض الكتب والمقاعد فدنا منه وقال له: أنا عاوز الست بتاعتك!

وقال قاسم أمين فى هدوء: عاوزها فى إيه؟!

قال الزائر: ألست تدعو إلى اختلاط المرأة بالرجل، والقضاء على الحجاب أعطنى امرأتك لأخرج معها!

وابتسم قاسم أمين فى مرارة وقال للزائر: إن الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب، وإعطاء المرأة حقها كإنسانة.. لا يعنى تحويلها من متاع خاص للزوج إلى متاع عام للناس! ودعوتى إلى تحرير المرأة من رق الحجاب وسجن الحريم هى فى الوقت نفسه.. دعوة إلى تحرير الرجل من مفهومه للمرأة، ولن تتحقق حرية المرأة إلا إذا تحقق تحرر الرجل من نظرته إلى المرأة!

قال الزائر: ولكنا لم نفهم هذا من نظريتك التى تنادى بها!

وقال له قاسم أمين: لن تفهم النظرية حتى تتحرر!

قال الزائر: إلى حرية الرجل تدعو.. أم إلى حرية المرأة؟!

قاسم: أنا أدعو إلى تحرر الإنسان.. الإنسان رجلاً وامرأة!

وبكى الزائر المجهول وأصر على أن يقبل يد قاسم أمين، فرفض قاسم وقال له:

- لا تمنح قبلتك إلا لامرأة.. زوجتك، أمك، أختك، فإذا كانت المرأة التى تقابلها ليست الزوجة ولا الأم ولا الأخت.. فمن حقك، بل من واجبك أن تقبل يدها! وهذا هو الفرق فى معاملة الرجل والمرأة».

بعد ذلك يمضى مقال كامل الشناوى فى وصف المناخ الاجتماعى والفكرى الذى كان سائدًا فى ذلك الوقت فيقول: «كانت دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة قد لقيت ضجة فى الرأى العام وقد تحمس المتزمتون لمحاربة الثائر المفكر المصلح واتهموه بشر التهم وحمل عليه رجال الدين حملة شعواء، وتصدى للرد عليه فى كتاب خاص شاب أصبح فيما بعد من أكبر الشخصيات العظيمة التى بنت اقتصادنا وساهمت فى تصنيع بلادنا وهو طلعت حرب باشا، وقبل أن يموت «طلعت حرب» كان بين موظفى البنك الذى أنشأه بضع فتيات ورفعت ابنته الحجاب وأعطاها والدها حق الموافقة على الزواج من خطيبها «محمد رشدى» الذى صار رئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعد!

وكان أصحاب الرأى وقادة الفكر يكتمون إعجابهم بشجاعة قاسم أمين ورغم ما يربطهم به من صلات الصداقة والزمالة، لم يستطيعوا أن يجازفوا بتأييده فى دعوته الخطيرة خوفًا من أن تنالهم ألسنة السوء!

أيد «لطفى السيد - أستاذ الجيل - قاسم أمين بتحفظ وحذر، التزم «سعد زغلول» الصمت، فلما أصبح زعيمًا للبلاد فى عام 1919 شجع حركة السفور التى قامت بها فى تلك الأيام هدى شعراوى وأم المصريين! و.. و.. و..

وفى مساء 23 أبريل من عام 1908 كان المستشار قاسم أمين يحتفل فى نادى المدارس العليا بوفد الطالبات الرومانيات اللاتى يزرن مصر، وذهب إلى بيته واستقبلته زوجته وبنته، ولم يكد يأوى إلى فراشه حتى شعر بانقباض ثم لفظ آخر أنفاسه فقد مات بالسكتة القلبية، وارتفع من هذا البيت أول مرة صوت صاخب من سيدة تبكى زوجها أحرّ بكاء!

هذا البيت باعته أسرة قاسم أمين وتحول فيما بعد إلى كباريه حمل عشرة أسماء وآخر هذه الأسماء هو «الأريزونا»!

وللحكاية بقية!