
رشاد كامل
محنة عبدالله الطوخى
أسعدنى الحظ أن أعرف عن قرب «نجوم» «صباح الخير» على مدى سنوات عمرى فى هذه المجلة الرائعة محررًا وسكرتيرًا للتحرير ومديرًا للتحرير، ثم رئيسًا للتحرير لمدة ست سنوات من سنة 2003 حتى مارس 2009، وعندى عشرات الحكايات والذكريات والمواقف مع هؤلاء النجوم الذين أضاءوا سماء حياتنا بالفن والفكر والإبداع.
عندما التحقت بصباح الخير صيف عام 1976 لفت نظرى إحدى الغرف بالدور السابع كان يطلق عليها غرفة كبار الكتاب، وكانت تضم الأساتذة علاء الديب وفى مواجهته عبدالله الطوخى، ثم صبرى موسى التى تشاركه المكتب الأستاذة زينب صادق.
وما أجمل وأروع أن تستمع وتستمتع بحكاياتهم وذكرياتهم وأنت فى مقتبل حياتك المهنية، ولا يتسع المجال لرواية كل هذه الذكريات، لكنى أتوقف أمام حكاية مهمة بطلها الأديب والروائى الكبير الأستاذ عبدالله الطوخى صاحب المسرحيات والروايات المهمة ومنها «المشخصاتية» و«طيور الحب» و«المرأة التى تكلم نفسها كثيرًا»، و«رباعية النهر» وسيرته الذاتية «عينان على الطريق وقصة حياة» ومنها «التكوين» و«التمرد» و«دراما الحب والثورة»، وفيها جاءت الحكاية المثيرة للدهشة والتأمل والتى بطلاها الأستاذان «محمد حسنين هيكل» و«مصطفى أمين».
كان الأستاذ «عبدالله الطوخى» بعد أن خرج من السجن وهجره لمهنة المحاماة ويقرر «الكلمات ستكون مهنتى مصاغة فى أجمل وأرقى الأشكال الفنية القصة القصيرة أو الرواية وذات يوم قد تأتى المسرحية».
لكن المشكلة أنه كان ممنوعًا من العمل ومسئولاً عن أسرته الصغيرة ويتساءل الأستاذ «عبدالله الطوخى»: من هو رئيس التحرير الذى يمكن أن يتقبلنى ككاتب يحمل فوق جبينه حكمًا من إحدى محاكم الثورة بالسجن عامين فى قضية هى فى عُرف تلك الفترة جد خطيرة وتدعو إلى الحذر؟!
وعفويًا قفز إلى رأسى اسمان: محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، ومصطفى أمين رئيس تحرير أخبار اليوم، لماذا هذان الاسمان بالذات؟
كان قد بلغنى من زوجتى «فتحية» وأنا فى السجن أيام الإضراب عن الطعام أن الاثنين قد أبديًا تعاطفًا نحو وفود العائلات التى كانت تمر على الصحف بقصد إثارة مطالب المصريين وتبرع كل منهما بمبلغ خمسة جنيهات وكان مبلغًا محترمًا فى ذلك الزمان رمزًا للتعاطف والرغبة فى المساعدة.
ويضيف الأستاذ «عبدالله الطوخى» قائلاً:
بمن أبدأ؟ وخطر لى على الفور «هيكل» المعروف بصلته الوثيقة بعبدالناصر، الأمر الذى يمنحه بالتأكيد سلطات غير مخولة لغيره، كما تجعله أيضًا فوق أى اتهام أو شبهات!
كان مبنى الأهرام أيامها ناهضًا كقلعة رمادية قديمة ممسكة بناصيتى شارع شريف والساحة ولم يكن واجهتها مشجعة ولا تسر الناظر إليها، اتجهت مباشرة بعد السؤال - إلى مكتبه، قدمت نفسى لسكرتيرته بصفتى كمحام! تفاءلت إذ لم أنتظر سوى دقائق معدودة وعادت لتصحبنى بابتسامة طيبة كريمة وأدخلتنى إلى مكتبه.
تفاءلت بترحيبه ومخاطبته إياى باسمى مقرونًا بلقب الأستاذ، كما سرنى فيه أن ملامحه وتقاطيع وجهه تنبئ بأنه مثلى من الريف وأن بيننا أصولاً مشتركة، إن هى إلا لحظات وفوجئت بإحساس آخر يداهمنى، إحساس برسمية اللقاء، وقد داخلنى هذا الإحساس من «رتم» الكلام وإيقاعه القافز السريع وفهمت أن علىّ أن أدخل مباشرة فى الموضوع، غير أنى ما كدت أشرع فى حكاية القصة حتى فوجئت به يقول باسطًا كفه:
«أنا دلوقت فهمت الوضع وأحب أقول لك حاجة بمنتهى الصراحة والوضوح أنا شخصيًا ما عنديش أى مانع تشتغل معانا هنا فى الأهرام بصرف النظر عن حكاية القصص دى.. الصحافة مجالها واسع، ولكن وضعك زى أنت ما حكيت مش بسيط وعشان كده أعطنى مهلة أسبوع زى النهارده وتعال لى وإن شاء الله يكون خيرًا»!
ويمضى الأستاذ «عبدالله الطوخى» قائلاً:
محملاً بروح الأمل خرجت محملاً أيضًا بنفس الروح عدت بعد أسبوع.. إلا أننى وأنا داخل من الباب إذا بى ألمح ابتسامة غريبة مرتسمة على شفتيه وهو ينهض ليسلم علىّ ثم يقول وهو يشير لى بالجلوس: يا راجل ده أنت طلعت شخص خطير جدًا، ومراتك أخطر منك!
قالها بلهجة من اكتشف حقيقة خطيرة فات عليه أن يكتشفها فى لقائنا الأول، وكان من الممكن أن يقع فى ورطة كبيرة لا يحبها لنفسه لو لم يكتشفها!
لا لم يكتشفها، بل هو أخذ بكلام البوليس السياسى الذى ذهب إليه يستطلع أمرى!
قلت وأنا أنهض واقفًا: معلهش آسف إذا كنت تعبتك معايا!
ولا أذكر إن كنت قد سلمت أم لم أسلم ووجدتنى فى الشارع أجرجر قدمى!
ويعترف الأستاذ «عبدالله الطوخى» قائلاً:
وعزت علىّ نفسى وقفز أمامى الاسم الآخر «مصطفى أمين» فلأذهب إليه وأجرب ربما! وتوجهت مباشرة إلى أخبار اليوم، وأنا سائر فى الطريق داهمتنى الكآبة مرة أخرى.. وعدت أفكر إذا كان الصحفى الكبير الذى يصاحب عبدالناصر ويكاد يكون صديقه قد تصرف معك هكذا.. كأنما نجا بنفسه منك!
وعلى نحو صريح جسم من خطورة وضعك.. فكيف سيتصرف الرجل الذى ألقى القبض عليه هو وأخوه ليلة حدوث الثورة على سبيل التحفظ وتأمينًا للثورة باعتبارهما مواليين للملك ولأمريكا الضاحكة كما كان شائعًا فى الأربعينيات!
وتباطأت خطواتى وأمضى فى طريقى وحتى إذا فشلت التجربة فلن أخسر شيئًا ولتكن مغامرة الوقت الضائع وأتعرف على هؤلاء الذين يتربعون فوق قمة عالم النشر.. عالم صاحبة الجلالة!
ويستطرد الأستاذ «عبدالله الطوخى» قائلاً:
«الآن وأنا أكتب عن هذا اللقاء، لقائى الأول بالأستاذ مصطفى أمين أحس بموجة رقيقة تشمل كل روحى وأنا أسترجع ذكرى تلك اللحظة الحافلة بالبهجة والضياء، بهجة الروح المتفتحة دومًا للعطاء وضياء حجرة مكتبه التى تقع فى الدور الثامن مطلة على أعلى المدينة، ومازلت أذكر همسة الدهشة والإعجاب لنفسى حين وقعت عيناى عليه لأول مرة وهو ينهض من على مكتبه ليتقدم نحوى بكل هيلمانه الجسدى ويستقبلنى، يا إلهى ما كل هذه الضخامة والعظمة فى الجسم وما كل هذه الطفولة والبساطة فى الروح»!
لقد كان رائعًا ومدهشًا أن أجده مشوقًا وعلى نحو يكاد يكون طفوليًا لأن أحكى له عن تجربة سجنى وأنه يحترم هذه التجربة، بل يكاد يهنئنى عليها، فالكوارث فى حياة الكاتب سرعان ما تتحول إلى كنز يغترف منه! كما لاأزال أتذكر قوله: «أنا لست شيوعيًا، بل إنى ضد الشيوعية، وعلى خط مستقيم، لكنى فى الوقت نفسه أحترم حرية العقيدة، كما أدعو إلى تكوين حزب شيوعى فى مصر، ذلك يظهر الأشياء على حجمها الحقيقى»!
ولقد أحسست وكأنى صديق له من زمن طويل وأن حجرته هذه يمكن أن تكون ملاذًا ومقصدًا فى أى لحظة أحتاج، وفكرت فى نفسى أنى لو لم أخرج من هذا اللقاء بغير تلك المشاعر الحلوة التى غمرتنى لاكتفيت، ولما همنى أبدًا الموضوع الأصلى الذى جئت من أجله وهو نشر قصصى! إلا أنه لم يلبث أن دخل فى الموضوع وقال: - هات لى قصة وتأكد لو وجدتها جيدة فأنشرها فى صفحة القصة بأخبار اليوم!
وياإلهى على السعادة التى تأججت بها روحى وهو يقول لى بعد أسبوع من تقديمى القصة له: قرأت القصة وستنشر فى العدد القادم!
وقد بذلت جهدًا جبارًا كى لا أنهض من جلستى وأشد على يده معبرًا عن فرحتى، إلا أننى فوجئت به يقول بهدوء: ولكن هناك نقطة أحب أن نتكلم فيها.. لا أريد أن ننشر هذه القصة على نحو يحمل معنى التحدى.. أنا أفكر أن تختار لتوقيعك اسمًا غير الاسم الحقيقى وهو عرف متبع ومشهور فى العالم كله، حين تجبر الظروف الكاتب على ذلك فى بعض المراحل!
قلت صائحًا وقد تحمست للاقتراح جدًا، بل وجدتها لعبة طريفة يدعونى إليها، فاتحًا بها الباب أمامى بالتدريج وصحت به: أنا موافق.. أنا لا يهمنى الآن إلا أن تنشر كلماتى ويقرأها الناس والمهم أن تراها صالحة بالفعل للنشر! قال: جهز قصة أخرى واستمر «خلّ عندك صبر حتى تتحسن الظروف! والآن ما الاسم الذى تحب أن توقع به على قصتك»؟!
قلت على الفور وقد بدت عنى ضحكة صافية سعيدة: «صلاح عبدالله، صلاح هو ابنى وعبدالله هو أنا وبهذا فالحكاية فى بيتها.. ما راحتش لحد غريب.. وتلاقت ابتساماتنا»!
وأخيرًا يقول: «والحق أنى لأجدها فرصة لى - بعد أربعين عامًا من ذلك اللقاء - أن أوفى ولو بشىء من الدين الكبير الذى طوقنى به هذا الرجل الكريم، كلمات شكر وامتنان لا أملك سواها ويجىء إعلانها متأخرًا جدًا». وللحكاية بقية